تصميم الغلاف والتنسيق : أ.ديمه العاشور
التدقيق : أ. ريمون سليمان
الأديب : علي محفوض من مواليد سوريا /1961/في مدينة حمص . حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق . عمل گ مدير للعقود والأليات والأبنية في المؤسسة العامة للبريد . هاوٍ للأدب والفن التشكيلي منذ نشأته ، ولديه أعمال فنيّة في النحت على الحجر والخشب . صدرت له أعمال أدبية متعددة ، منها في الرواية ، والشعر ، والقصة ، ومنها في الفكر وغيرها . ومن أعماله الأدبية في الرواية : رواية : أكبادنا المهاجرة . رواية : في سرير النهر . رواية : مأساة المحامية العاشقة . رواية : ميراي . في الشعر: أصدر : ديوان : في عينيك . ديوان : أمي يا أميرة . وفي القصة كانت له مجموعة قصصية تحت عنوان,,لو أني,, أصدر مجموعة من الكتب الفكرية : كتاب : علم الإدارة . كتاب الإمام علي للقائد مالك الأشتر النخعي حين عين والياً على مصر . كتاب : نور من القرآن . الأديب علي محفوض صاحب فكر متّزن ، واسع الحكمة ، ولا يكفّ عن تشجيع الجيل الناشئ في الحفاظ على مسيرة الأدب و اللغة العربية . وأخيراً صدرت له رواية ,,مكسيم,,الماثلة بين أيديكم .
بعد أن دخل الغابة المترامية الأطراف ، المنحدرة من أعلى الجبل إلى أسفله قرب النهر ، الواسعة في امتداداتها ، الكثيفة في أشجارها ، و عبر طريقها الوحيد الذي يعبره في المنتصف تقريباً و ذلك بوساطة جراره الزراعي الذي يملكه ، و بعد وصوله إلى المكان الذي قصده ، أوقف الجرار على حافة الطريق . أطفأ المحرك ، فهدأت أصوات ضجيج المقطورة ، ذلك الصندوق الحديدي الذي يجره وراءه ، حيث كانت تسمع إلى مسافة بعيدة ، لقد وضع فيها منشار الحطب الذي يعمل محركه على البنزين ، و بعض الأدوات التي يحتاجها للعمل الذي سيقوم به ، و لم ينسَ أن يحضر عبوة إضافية من البنزين ليضمن استمرارية عمله لمدة أطول . كان ابنه الصغير الذي لا يتجاوز عمره السنوات العشر برفقته ، لم يستطع التملص منه هذه المرة كما كان يفعل سابقاً ، لقد علق به يريد الذهاب معه إلى الغابة ، والده لم يكن يرغب في اصطحابه ، ليس لرغبته في ذلك ، و إنما كي لا يرى أو يعرف ما يفعله هناك . لقد اصطحبه مرغماً ، لم يستطع الطفل الصغير مكسيم التحدث إلى والده أثناء ذهابهما إلى الغابة و هو يعتلي الجانب الأيمن من الجرار ، نظراً لصوت محركه المرتفع و الضجيج الصادر عن حركة المقطورة . كان يتخيل في ذهنه شكل الغابة من الداخل عندما كان يراها من بعيد فيظنها عالماً آخرً ، أصيب بالدهشة والخوف بعدما أصبح بداخلها ، و أراد أن يعبر عن ذلك و يبلغ والده عما يدور في خلده ، لكنه لم يستطع ، بسبب صوت محرك الجرار المرتفع ، فانتظر لحين إطفائه . أدهشته تلك الأشجار الجميلة المتنوعة ، الكبيرة منها و الصغيرة ، و تلك النباتات و الأعشاب المختلفة الأنواع ، و بعض الورود البريّة المختلفة الأشكال و الفريدة من نوعها
و مع اختفاء صوت الجرار ، عندما توقف في المكان المقصود ، كان سكون الغابة طاغياً بعد أن همد الجرار ، حيث لم يكن يسمع إلا حفيف أوراق الأشجار الجميل ، و نسيم الهواء العليل ، الذي كان يلاعبها فتهتز حين يتدفق مسرعاً ، و تهدأ حين يستريح قبل أن ينطلق مجدداً . أخذ والده ينزل أدواته من مقطورة الجرار ، أما مكسيم فقد بدأ يطرح أسئلته و هو في قلبها - لقد كان يرى الغابة من بعيد ويسمع عنها الكثير الكثير - فكان سؤاله الأول : ماذا ستفعل هنا يا أبي ؟، تأخر الرد قليلاً ، فالسؤال مفاجئ بالنسبة لأبي مكسيم ، إنه يفكّر فيما سيقول لابنه ، حيث وردت في ذهنه عدة أفكار لكن كلها يجمعها شيء واحد ، إنها غير صادقة ، فجاء جوابه : أتيت من أجل تقليم الغابة و تخفيف الكثافة فيها كي تنمو بشكل منتظم . لكن تعليق مكسيم على هذا الرد أربكه ، حيث أتحفه بشرح مليء بعبارات و جمل و معان و مغزى لم يكن يتوقع أن مكسيم يستطيع قولها ، و مما قاله : يا أبي ، إن كثافة الغابة شيء مفيد ، فالأشجار تقف إلى جانب بعضها البعض لتدافع عن نفسها ، فـبلاتحاد قوة ، مثل المحاربين ، فالتراص و الكثرة أفضل من التفرّد و الندرة ، فما كان إلا أن سأله : من قال لك ذلك ؟؟؟..
تساءل عن سبب هذه الحرارة ، و من أين تأتي ، و لماذا تختلف من وقت لأخر؟! ، و فكر في أن يسأل والده عن ذلك ، أو معلمته ، أو والدته ، فكانت والدته هي الخيار الأفضل . بعد انتهاء البرنامج مع انتهاء الشارة التي يختتم بها يومياً ، أخذته خطواته إلى غرفة نوم والدته التي وجدها على وشك النوم ، و بدأ يمطر عليها أسئلته التي تدور حول الحرارة ، لدرجة أنها تخيلت نفسها في امتحان لمادة الجغرافية ، فعلى الرغم من نعسها الشديد استمعت إليه و لم تشفع لها دراستها في مجال العلوم السياحية و عملها أيضاً في الإجابة عن كل الأسئلة ، فبعضها أجابت عليها باقتضاب لأنها فوجئت بها ، و لم تكن تتوقعها ، و خاصة سؤاله عن تأثير قطع الأشجار على ارتفاع درجة الحرارة . لقد أجابته بأن ذلك يختلف من منطقة لأخرى ، ففي المناطق الجافة الشجرة ثروة وقطعها يؤثر كثيراً مقارنة بالمناطق الزراعية ذات الخضرة الواسعة . عاد مكسيم إلى غرفة الجلوس و هو يفكر بما قالته والدته ، و خاصة عن تأثير قطع الأشجار و اختلاف هذا التأثير من مكان لآخر علماً أن الكون واحد ، و السماء واحدة ، وبالتالي التأثير سيكون في كل مكان . لم يقتنع ، لذلك قرر أن يسأل معلمته عمّا قالته والدته . شعر والد مكسيم بأن العلاقة مع مكسيم قد تغيرت بعض الشيء ، حيث أحسّ بامتعاضه منه بسبب قطعه للأشجار من الغابة ، و علم أنه شكاه لوالدته ، فما كان منه إلا أن حاول إقناعه بمشروعية عمله ، وخاصة أنه يسترزق من ذلك ويحصل على أموال لا بأس بها ليؤمن لهم الغذاء و الكساء .
أجاب مكسيم : لقد شاهدت ذلك في أفلام الكرتون في التلفاز ، لقد شاهدت معركة بين متحاربين ، فاز فيها الفريق الذي تكاثف و تكاتف ، و هكذا الأشجار ، فلماذا أنت تريد قطعها..؟، دعها يا والدي تنمو و تترعرع . أخذ والده يفكر بكيفية إقناعه بأن ما يفعله مفيد للغابة و لهما أيضاً ، يعلم أن مكسيم يحب الشواء و خاصة ما يكون منه على الفحم ، فقال له : سأقوم بقطع هذه الشجرة للحصول على الحطب لأجلك ، ألا تحب الشواء؟ ، ألم تقل لي يوماً أن الحطب من الأشجار التي يبست و ماتت ، فتستفيد منها ، و تحول موتها إلى حياة من خلال الطاقة المختزنة في تلك الأغصان اليابسة ، بدل أن تلقى لتفنى في الطبيعة ، من خلال النار التي نشعلها؟!. أحرجه مكسيم وهو يسمعه تلك العبارات ، فأقوى الأدلة ما يأتي من الخصم ، لقد انطبق عليه المثل القائل : من فمك أدينك . أحسّ أنه في ورطة ، وأخذ يفكّر بما سيقول لإقناعه ، فما كان منه إلا أن تجاهله و قام بتشغيل محرك المنشار الذي ارتفع صوت محركه ، فبدد الهدوء و السكينة ، و لم يعد يستطع أي منهما سماع الآخر . رأى أبو مكسيم أن ذلك هو الحل الأنسب للخروج من ورطته مع ابنه الصغير ، و أخذ يردد في ذهنه : ما هذا الجيل الذي لا يقتنع إلا بدليل؟!!. انقضّ أبو مكسيم بمنشاره على جذع أقرب شجرة واقفة فأصابها في عنقها ، كما يفعل الذئب في فريسته ، أوقعها أرضاً و بدأ يفتك بها فقطع أغصانها ثم أفرعها ، و من ثم الجذع . نظر مكسيم إلى ما فعل والده بتلك الشجرة بحزن ، و أخذ يقارن بين منظرها الذي أصبحت فيه ، و الحالة التي كانت عليها عندما وصلا الغابة ، فرأى في فعل والده الغدر
و قلة الوفاء لها ، لقد أحس أنها كانت ترحب بهما عندما كانت واقفة و هي تهز أغصانها ، و تنبعث رائحتها عندما كانا يقفان تحت ظلها قبل أن يقطعها إرباً إرباً . ٌلقد أحزنه ذلك و تساءل : لماذا يفعل والده هكذا؟!! لقد خلقت الأشجار لنستمتع بها و نحن نقطعها ! ، و لم أكن أعلم أن نار الشواء تنتج عن هذا الفعل ، ولسوف لن أتناول اللحم المشوي على الفحم أو الحطب بعد الأن . اعتكف مكسيم عن مساعدة والده - على الرغم من أنه طلب منه ذلك - واكتفى بالنظر إلى ما يفعله ، حيث قام بوضع ما استطاع تقطيعه من جذوع و أغصان الأشجار في صندوق الجرار عائداً إلى بيته مسروراً على عكس مكسيم الذي أزعجه ما رآه من فعل والده . مساءً جلس مكسيم أمام التلفاز يتابع أحد البرامج المفضلة لديه ، كانت درجة حرارة الجو مرتفعة ، علماً أنه في مثل هذه الأيام من السنه تكون الحرارة معتدلة ، فما كان منه إلا أن تناول جهاز التحكم العائد للمكيف و ضغط على زر التشغيل ، ثم وضعه على درجة الحرارة المطلوبة التي تناسبه ، و أخذ يتابع البرامج و هو ينعم بالهواء المتدفق من ذلك الجهاز . لم يكن يغادر الغرفة خشية اختلاف الجو ، و الفارق في درجة الحرارة بين الغرفة و خارجها ، حتى أحسّ في نفسه و كأنه أصبح مثل المواد التي توضع في البراد لحفظها من الفساد .
ولكنه لم يستطع أن يغير من حالته شيئاً ، و بقي مكسيم على قناعاته بأن ما فعله والده في الغابة و تقطيعه لتلك الأشجار الجميلة الحنونة ، فعل غير بريء ، لكنه أبقى على علاقته الرعوية ، والعاطفية ، والأبوة مع والده على أمل أن لا يطلب منه أيّة مساعدة في العمل الذي يمتهنه في قطع الأشجار و صناعة الفحم . مكسيم متشوق للحضور إلى المدرسة ، فهو يود سؤال معلمته عن تأثير قطع الأشجار على ارتفاع درجة حرارة الأرض ، وكانت العجلة بادية على حركاته ، خاصة و هو يرتدي ثياب المدرسة ، و يلبس حذائه ، ويحمل محفظته استعداداً لانتظار العربة التي ستنقله إلى المدرسة . بعد وصوله المدرسة و دخوله القاعة ، لم يكد يستوي على المقعد المخصص له حتى حضرت المعلمة ، الدرس لمادة الرياضيات ولا علاقة له بالحرارة ، أخذ يتساءل هل يسألها ، أم يخرج كتاب الرياضيات و يضعه على الطاولة؟، و بعد محاكمة ذهنية بسيطة أخرج كتاب الرياضيات و وضعه على الطاولة كما فعل أقرانه مقتنعاً أن ذلك هو العمل المناسب . عندما انتهت الحصة الدراسية ألقى نظرة إلى برنامجه اليومي ، فلم يكن في يومه هذا أي مادة تتعلق بسؤاله ، فكر في الذهاب إلى قاعة المدرسين لسؤال المعلمة ثانياً ، فهي المعلمة المتخصصة في مادة الجغرافية ، فما كان منه إلا أن اتجه إلى قاعة المدرسين التي تقع في نفس الطابق مع بداية الاستراحة ، فيما باقي الطلاب أصبحوا في الباحة . عندما وصل إلى
أمام باب القاعة ألقى نظرة سريعة من الباب المفتوح على مصراعيه ، وجدها مكتظة بالمعلمين و المعلمات ، وقف قليلاً و بين التقدم خطوة و التراجع خطوة ، فما كان منه إلا أن غيّر اتجاهه و التحق برفاقه في الباحة . هناك حيث يظلل قسم من أغصان الأشجار الممتدة و المتدلية من الشارع المجاور لسور المدرسة ، أخذ ينظر إلى تلك الأغصان بتمعن و قبل انتهاء الوقت المخصص للاستراحة سمع صوت محرك ، إنه يشبه المحرك الذي قطع والده بواسطته الأشجار في الغابة ، إنه المنشار . بدأت تلك الأغصان تتهاوى ، سأل مكسيم زميله يوسف عن هذا الأمر ، فقال له: إن هذا يحصل في كل عام لكي تنعم الأشجار بأغصان فتيّة وقويّة . عاد الطلاب من الباحة إلى صفوفهم ، بدت واضحة على محياه علامات التجهّم ، وخاصة عندما لمح من النافذة المطلة على سور المدرسة أن الأشجار أصبحت عارية و بلا رأس ، خشي عليها من الموت ، لقد قُطع رأسها . غادر مكسيم المدرسة دون أن يستطيع الاستفسار من أحد عن سؤاله ، مع اقتناعه بضرورة انتظار موعد درس الجغرافيه حيث يلقى مراده . في البيت وجد والده و قد أعد مع وجبة الغداء اللحم المشوي على الفحم ، نظر إلى طاولة الطعام مليّاً فقطب حاجبيه ، وعضّ على شفتيه ، ثم وضع محفظته في المكان المخصص لها و استبدل ثيابه ، و جلس يتناول طعامه بعد أن غسل يديه كما يفعل دائماً ، لم يتناول من لحم الشواء شيئاً ، واكتفى بتناول بعض المقبلات و المشروبات الموجودة على الطاولة .
لاحظ والده ذلك فتجاهل إثارة الموضوع و اكتفى بالمراقبة ، و بعد انتهائهما من تناول الطعام ، دار حوار بين مكسيم و والده عن الدراسة و المواد المدرسية و المدرسة ، حدّثه مكسيم عن الأشجار التي تم قطع أغصانها ، فما كان من والده إلا أن أيّد ذلك و أخذ يشرح له عن فوائدها و استرسل في حديثه ، إلى أن أخبره عن طريقة الحصول على الأخشاب من الغابات و طريقة معالجتها بالمعامل و عن تأمين حاجيات الإنسان منها من مثل أثاث البيوت ، والمقاعد الدراسية ، و الطاولات أيضاً . سأل مكسيم متعجبا : أكلّ هذه الأشياء يتم الحصول عليها من الغابة؟؟!، رد عليه : أجل أجل يا بني ، لكن ذلك يتم بشكل مدروس ، إذ يتم تدريجياً و من ثم يزرع بديلاً عنها . سأله مكسيم : وكم يلزمها لتصبح كبيرة؟، أجابه بضع سنين . بعد أن سمع من والده ما سمعه ، كان شروده واضحاً وأخذ يفكر إذا كان منزله يحوي كل هذا الأثاث من الخشب ، ومدرسته أيضاً ، فكم من الأشجار تم إعدامها لأجل تأمين أثاث لبيوت العالم ومدارسه ؟!!. عادت والدته من عملها وهي تحمل صندوقاً خشبياً وبداخله قطع من الحلوى ، أحضرتها من أجل مكسيم ، صندوق متقن الصنع وجميل ، وحين قدمته له قال وهو يتناول إحدى القطع التي وضعت بداخله : حتى الحلوى تقدم للناس على حساب الغابة؟!
و ردد في سره : ما أتعس الغابة من فعل الإنسان الذي لا يعرف قيمتها و لايستخدمها إلا من أجل المنفعة المادية ، فهو بذلك لا يشبه إلا الفأر أو الجرذ الذي يخرق السفينة للحصول على كسرة خبز . الحوارات التي كانت تدور بين مكسيم وزملائه في المدرسة لم تكن تخلو من الحديث عن الغابة وجمالها ، وعن الأشجار وفوائدها ، إنها حديثه الدائم إلى درجة أنهم بدؤوا يتجنبون لقاءه و البعض منهم كان يسأله متهكما : ( شو أخبار الغابة ). أحس بذلك ، فأخذ ينزوي بنفسه وحيداً ، بعيداً عن هؤلاء مع استمراره في البحث عن طريقة للدفاع عن الغابات و الأشجار ، كان يتساءل : أين حراس الغابة ، و لماذا يسمحون أن يُفعل بها هكذا؟؟!، ثم تابع تحضير برنامجه ليوم غد . لديه حصة في مادة الجغرافية ، لقد حان الوقت ، سيسأل معلمته ذات الاختصاص ، علماً أن الحصة مخصصة لبحث لا يتعلق بالحرارة ، وسأل نفسه هل ستستجيب المعلمة ثانية؟؟. سأل والدته التي كانت بقربه وهو يعد برنامجه الدراسي ليوم الغد : ماذا لو سألت المعلمة عن ارتفاع درجة الحرارة علماً أن الحصة الدراسية تتعلق بموضوع أخر؟؟ أجابته : لاشيء ، و هو أمر عادي كونها تتعلق بنفس المادة ، سره ذلك ، فحزم أمره للسؤال . نام في فراشه بعد حلم يقظة أعاد فيه استعراض شريط يوم ذهابه مع والده إلى الغابة ، و كالعادة استيقظ باكراً ، غسل وجهه ، سرّح شعره ، لبس ثيابه المدرسية ، حمل محفظته ، و خرج ينتظر السيارة التي ستقلّه إلى المدرسة .
بعد أن ترك والدته في المنزل تستعد للذهاب إلى عملها ، وبعد أن وصل المدرسة ، وجد الوقت طويلاً وهو ينتظر حلول موعد حصة الجغرافية ، و التي كانت آخر حصّة في البرنامج لهذا اليوم المدرسي . أسارير وجهه تتحدث عن حالته و هو ينظر إلى المعلمة و هي تدخل القاعة ، لكنها على غير عادتها ، و بعد التحية بدأت بإعطاء الدرس فوراً حول خطوط الطول و العرض ، فوجد أنه ليس لديه الفرصة لتنفيذ ما خطط له ، و أخذته الحيرة ماذا سيفعل ؟؟، خاصة و أن الوقت أخد يمضي مسرعاً و المعلمة ماضية في شرحها ، و أخيراً تسأل : هل من سؤال؟. لم يكد مكسيم يصدق ما سمعه حتى رفع يده ، و عندما أعطته الإذن تفاجأ كل من في القاعة من سؤاله ؛ لم يكن يتعلق بالدرس ، بل إنه عن ارتفاع درجة الحرارة ، لذلك سمعت بعض الضحكات من بعض الطلبة ، و خاصة ممن كانوا يتهكمون به و بسؤاله عن الغابة . شعر مكسيم بالحرج و الخجل ، أسكتتهم المعلمة و أثنت عليه لسؤاله هذا وبدأت تجيبه ، فعاد له لونه الطبيعي و زال الاحمرار الذي اعتلى وجهه ، لقد عددت المعلمة بعض الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة ، فمنها ما يكون بفعل الإنسان من الملوثات التي تضر البيئة من مثل دخان المصانع و مخلفات المحركات الميكانيكية ، و قطع الأشجار التي تحرم الطبيعة من أحد المصادر الهامة للأوكسجين ، و التي تلطف الجو و تخفف من درجة حرارته مكان تواجدها . كان أغلب تلاميذ الصف في حالة من الصمت ، و خاصة الشامتين منهم ومكسيم فرحاً مسروراً ، لقد تقدم عليهم في سؤاله عند المعلمة ثانية ، و بعد أن كانوا يلقبونه وحش الغابة ، أصبحوا ينادونه بطل الغابة .
بعد الحصة غادر المدرسة مسروراً ، وتبيّن أنه من حسن حظه كانت الحصّة الأخيرة ، حيث عاد إلى بيته مسرعاً ليخبر والده بما قالته المعلمة و بما أجابته ، لعلّه يقنعه فيرفع يده عن قطع أشجار تلك الغابة التي أحبها . كانت الدقائق الخمس التي تأخرت فيها الحافلة عن الموعد المحدد لنقله عائداً ، و كأنها خمس ساعات ، فعندما وصلت إلى أمام منزله و وقفت في المكان الذي ينزل فيه عادة ، كاد يسقط أرضاً لاستعجاله بالنزول منها . فوجئ بوجود والدته في المنزل وهو يدخله ، فعادة هي تحضر بعد حضوره ، فما كان منه إلا أن حيّاها وهو يقول بصوت مرتفع على غير العادة وبلهجة استفهام وتعجب : ماما ؟! ردت نعم سيد مكسيم ، وتابعت ، هيّا تناول الطعام ، استرح و أنجز دروسك ، لأننا غداً سنذهب إلى المدينة برفقتك ، و في طريق العودة سيكون لنا زيارة لصديق والدك الذي يسكن قرب مصفاة البترول و التي يعمل فنيّاً فيها ، و هي قريبة من الطريق العام الذي سنعبره . سألها : هل يوجد غابة في المدينة ؟ قالت : أعلم أنه يوجد حدائق ، ثم بدأ يقصّ عليها ما قالته المعلمة ، و عندما حضر والده أعاد عليه العبارات و الجمل نفسها ، و قبل أن يطلب من والده الكف عن قطع الأشجار و الاكتفاء بالحصول على الأغصان اليابسة منها ، و ما يحصل عليه من التقليم الطبيعي ، فقاطعه والده ليخبره بما أخبرته والدته من قبل عن زيارتهم للمدينة .
عندما كان مكسيم يتناول الطعام مع والده أعاد على مسامعه مرة أخرى ما جرى في درس الجغرافية ، ثم قال له : أرأيت يا والدي ، إن في قطع الأشجار ضرراً فادحاً ، وعلينا الزراعة بدل القطع ، أيدته والدته بذلك وهي تمدح معلمة الجغرافية على معلوماتها المفيدة ، بينما الأب اكتفى بأن ردد كلمة ( حسناً ) مرتين . خيم الصمت بعدها ولم يُقطع إلا عندما حمد مكسيم الله تعبيراً عن شبعه بعد تناول الطعام ثم قام و ذهب ليغسل يديه كما يفعل دائما . يعلم مكسيم أن المدينة ليست بالبعيدة ، لأن والده يذهب إليها و يعود في نفس اليوم . في الصباح غيّر مكسيم رأيه و أبلغ والديه بعدم رغبته في هذه الزيارة ، لكونه سيقوم بالتحضير لاختبار مادة العلوم . اقتنع الأب بذلك و لكن والدته ألحت عليه بأن يرافقهما ، فهي ترغب بذلك ، ولكي تحمله على التراجع عن قراره أغرته بأنها ستشتري له بعض الغراس التي يريدها ليزرعها في المكان الذي يرغب به ، فنجحت في ذلك . وما أن أصبحت العربة جاهزة للإنطلاق حتى كان مكسيم أول الصاعدين إليها ، وجلس في المقعد الخلفي وحيداً بينما جلست والدته في المقعد الأمامي جانب السائق . سأل مكسيم والده : ماذا سنفعل في المدينة يا أبي؟ رد عليه : سوف أتقاضى ثمن كميات الفحم والحطب التي قمت بتسليمها لصديقي بائع الفحم ، وسوف نشتري أنا ووالدتك بعض الأشياء المنزلية
والحاجات الشخصية ، وفي طريق العودة سنقوم بزيارة صديقي الذي يعمل فنياً في المصفاة الواقعة على الطريق . خلال عبور الطريق باتجاه المدينة لم يكن مكسيم يرى على جانبي الطريق سوى الأراضي الجرداء القاحلة ، فسأل والدته عن أسباب ذلك فكان جوابها بسبب عدم وجود المياه . سألها متعجباً : ألا تمطر هنا ؟!! ، أجابت : نعم تمطر ، لكن بكميات قليلة ، وهي غير كافية لنمو الأشجار ، ثم عاد وسألها : ولماذا لا تمطر هنا كما في قريتنا ؟ ، احتارت ماذا ستقول له ، فما كان منها إلا أن اختارت جواباً عللت فيه السبب لارتفاع درجات الحرارة . ظهرت المدينة من بعيد ولم تعد المسافة التي تفصلهم عنها بالطويلة حيث لاحت لهم الأبنية المرتفعة وسحب الدخان المتصاعدة فوقها حتى خال بأنها تحترق . سأل مكسيم والدته عن ذلك : فراحت تشرح له عن سبب هذا الدخان ، فحدثته عن المصانع والمعامل والسيارات والأليات ، و استخداماتها العديدة في الأماكن العامة و الخاصة من مراجل و مدافئ و أفران ، و كلها تؤدي إلى ظهور هذا الدخان . سألها : و كيف يتنفس الناس ، و هل سندخل في هذا الدخان ، ألا نحترق؟؟!!!.
أجابت : يا ولدي إنه مرتفع جداً وأنت تشاهده هكذا لأنك تنظر إليه من بعيد . لم تدُر عقارب الساعة كثيراً إلا و كانوا قد أصبحوا على مدخل المدينة ، فكان والده يقود العربة بين جموع العربات الكثيرة العدد و المتنوعة ، و يخترق الشوارع ماراً من مكان إلى آخر ، حتى وصل إلى محل صديقه بائع الفحم . ركن سيارته في مكان قرب رصيف كل من ينظر إليه تبدو له آثار الفحم من خلال اللون الأسود الذي يوشح معظم المكان . ترجّل والده من السيارة و بقي مكسيم و والدته بداخلها ينتظران عودته . توجّه إلى مكتب مفتوح يجلس فيه رجل خمسيني ، دخله ثم حياه ، و أخذ يكلمه دون أن يجلس ، على الرغم من وجود بعض المقاعد الفارغة إلى جانب ذلك المكتب ، و الذي يتبين لأي ناظر إليه وجود مستودع ضخم محشو بأكياس الفحم الممتلئة . راح مكسيم يفكر بتلك الأشجار التي حرقت من أجل الحصول على هذه الكميات من الفحم ، و تساءل مرة أخرى : هل خلق الله الشجرة لنقطعها ونحرقها أم لنزرعها ونحميها ؟!.. شاهد والده وهو يستلم مبلغاً من المال من الرجل ثم يقوم بوضعه في محفظته ، قبل أن يتجه عائداً إلى عربته . استوى أبو مكسيم على المقعد وراء المقود ، ثم التفت إلى زوجته وسألها : إلى أٌن تودين الذهاب؟ ، فكرت قليلاً و بعد برهة فيها بعض الحيرة ، قالت : إلى محلات الألبسة .
تدخل مكسيم و طلب من والده أن يأخذه إلى الحديقة ، فردّ عليه والده : إن بقي لدينا وقت كافٍ . صمت بعد سماع ما قاله والده و تمنى أن يكون من أصحاب الحظ السعيد ، و أن يتوفر الوقت الذي يسمح له بزيارة الحديقة ، بعد جولة في المدينة . لم يبقَ مكان يحتاجون منه شراء حاجة إلا و قصدوه ، و من بين تلك الأمكنة مكان شراء بعض قطع الغيار لمنشار الحطب ، و لم تبق لهم من الأشياء المطلوب تأمينها سوى الغرسة التي وعدته بها والدته . حاول والده الانعطاف بالسيارة إلى المشتل القريب ، و عندما أدركت والدته ذلك ، طلبت منه زيارة الحديقة أولاً ، فاستجاب لطلبها خاصة و أنها تريد ذلك نزولاً عند رغبة مكسيم . و لدى وصولهم إليها و بالقرب من أحد المداخل و في المكان المخصص لوقوف السيارات ، ركن أبو مكسيم سيارته ، وعندما ترجلوا منها قاصدين الحديقة ، كان مكسيم في البداية يسير خلفهم ، و بعد أن دخلوا الحديقة أخذ يسبقهم في المسير ، فكان ٌيتلمس الأزهار و جذوع الأشجار ، إلى أن وقف بجانب ساقية ماء تسير مياهها متدفقة عبرها ، أدهشه منظر تدفق المياه وطريقة سيرها ، وعلِقت عيناه على بعض الشوائب التي تحملها تلك المياه معها في رحلتها العابرة للمكان . لم يشعر بالوقت الذي استغرقه وهو يتابع سيرها في ذلك السرير الذي يضيق في مكان ويتسع في مكان آخر ، وفي أماكن يختفي ليظهر مجدداً في مكان أخر . و بعد استراحة قصيرة تحت أغصان شجرة توت كبيرة - بناء على رغبة أبو مكسيم - تابعوا سيرهم ، حيث كان مكسيم يسير فوق مروج الأعشاب الخضراء
الغضّة ، فيركض كما يفعل المهر الصغير أحياناً ، و أحياناً يسير فوق المدرجات الإسمنتية . في أثناء ذلك شاهد شجرة وارفة الظلال تتدلى منها ثمار تشبه قرون الماعز ، رائحتها طيبة ، سأل والده عنها ، فأجابه بأنها شجرة الخروب ، ألا يوجد منها في قريتنا؟ فرد عليه : لا أعتقد فلم أشاهد أي شجرة ، لماذا؟ لا أعلم . لماذا لم تزرع شجرة منها في القرية يا أبي؟! فقال له : إنها شجرة حراجية و نحن في القرية نعتمد على الأشجار المثمرة لنستفيد من ثمارها . رد على والده : لكنك تستفيد من الأشجار الغير المثمرة!!!. علم والده أنه يقصد موضوع الفحم والحطب ، فأجابه بأنها غير مرغوبة للفحم و الحطب ، و لا تصلح للأثاث المنزلي ، فكانت هذه المعلومات كافية لتكون تلك الشجرة خياره للغرسة التي وعدته والدته بها ، وتمنى أن يجد منها في المشتل الذي سيقصدونه كي تنفّذ والدته وعدها له وتهديه الغرسة . عندما غادروا الحديقة ، كان مكسيم
أسعده ، بالرغم من أنه و أثناء تجواله أخافه قط أسود ضخم ، و خاصة عندما وقف ينظر إليه من بعيد بعينيه الحمراويتين . في طريقهم إلى المشتل ، أبلغهما أبو مكسيم بأنهم لا يستطيعون التأخر في المشتل نظراً لاقتراب موعد الغداء لدى صديقه الذي ينتظر قدومهم ، فقالت والدته : إن ذلك يتوقف على مكسيم فهو الذي سيختار الغراس ، و في حال كان اختياره سريعاً سيكون الوقت الذي نستغرقه قصيراً . قال مكسيم في ذهنه : هل أخبرهما بأنني أريد شجرة الخروب وأختصر الوقت أم أنتظر ، فلعلّي أجد ما هو أفضل منها؟؟ ، وبعد محاكمة ذهنية أسرع من البرق ، فضّل الصمت على الإجابة ، لأن في العجلة الندامة . عندما وصلوا المشتل ، كانت السيارات تقف أمام مدخله إلى جوار بعضها البعض صفاً صفاً ، والناس يتجولون بداخله زمراً زمراً ، فمنهم من كان يحمل الورود ، و منهم من يحمل الغراس ، و منهم من يسير خالي اليدين . في المشتل غراس متنوعة ، و نباتات شتى من كل الأصناف و الأنواع ، و مكسيم في حيرة من أمره ، يسأل عن كل غرسة يشاهدها ، حتى عن الورود . سأله والده : هل وجدت مرادك ؟ ، ليس لدينا الوقت الكافي ، فقال له : نعم يا والدي أريد شجرة خروب . عندما سمع والده ذلك أبدى استغرابه ، و ردد العبارة وراءه متعجباً خروب!!! ثم سأله : و لماذا الخروب؟!!
أجابه مكسيم : لقد أعجبتني ، إنها شجرة جميلة ، ألم ترها يا والدي في الحديقة كم هي جميلة؟! ، يا أبي ، ألم ترى ثمارها الجميلة التي تشبه قرون الماعز؟؟! رد عليه : إنها شجرة حراجية يا ولدي ، وتنمو بحجم كبير جداً ، أين ستزرعها ؟!!، أريد أن أزرعها في الغابة القريبة ، فتساءل والده في الغابة ؟!!، ولماذا لا تزرع شجرة مثمرة في أرضنا نستفيد منها؟!!! فقال له : وهذه نستفيد منها سأله باستغراب وبما نستفيد منها؟!!، وقبل أن يجيب مكسيم على سؤال والده ، تدخّلت والدته قائلة : دعه يأخذ ما يريد . فسأل البستاني عمّا إذا كان لديه هذا النوع من الغراس ، رد بالنفي وأرشده إلى المشتل المجاور الذي تتوفر فيه هذه الغراس ، فاتجهوا إليه سريعاً و سيراً على الأقدام ، فهو مشتل ملاصق للمشتل الذي هم فيه . ما إن وصلوه حتى قام أبو مكسيم بسؤال العامل القائم على رعايته عن غراس الخروب ، وهل هي متوفرة لديهم أم لا ؟، رحب بهم و أعلمهم بوجود ذلك النوع من الغراس و سار أمامهم باتجاه مكان وجودها ، و بعد معاينة بعض الشجيرات ، اختار مكسيم اثنتين منها و قام والده بدفع ثمنهما .
حمل مكسيم واحدة ، و الأخرى حملها والده ، إلى أن وصل إلى مكان وجود السيارة ، فقاما بوضعهما في الصندوق الخلفي ، و صعد كل منهما إلى المقعد المناسب ، ثم أدار أبو مكسيم المحرك و أمسك المقود و انطلق . وطوال الطريق الواصل إلى بيت صديقه ، كان مكسيم يفكر بالغرستين ، خشي عليهما الموت ، لقد وضعهما في صندوق مغطى ، لكنه خاف اختناقهما ؛ فهو يعلم أن النبات يتنفس ، هكذا تعلم من مادة العلوم ، و لذلك عندما وصلوا و أوقف والده السيارة أمام منزل صديقه ، قام على الفور بتفقدهما قبل دخوله المنزل فوجدهما في حالة جيدة ، فما كان منه إلا أن تبسّم تعبيراً عن سروره . صافح مكسيم صديق والده الذي طبع قبلة على خدّه ترحيباً به كما فعل مع والده و هما يدخلان المنزل ، و بعد أن استوى كل منهم جالساً في مكانه ، لمح مكسيم من النافذة شعلة مرتفعة ليست بالبعيدة ، نظر إليها ملياً و هو يتذكر أنه سبق و أن شاهدها من قبل ، ثم قال : نعم نعم ، عندما كنا في طريقنا إلى المدينة . بعد ذلك انخرط يلعب مع أقرانه من أولاد العم أبي فرح ، بينما كانت والدته تحدّث أم فرح عن مشترياتها المنزلية لهذا اليوم ، وأبو مكسيم جلس يحدّث صديقه أبا فرح عن مكاسبه من التحطيب و صناعة الفحم . توقف مكسيم قليلاً عن اللعب ، و أخذ ينظر إلى تلك المنشأة الضخمة القريبة من مكان سكن أبي فرح ، لأول مرة يرى مثلها من مسافة قريبة ، ثم اتجه إلى والده و سأله عنها أسئلة جديدة و متعددة ، فيما إذا كانت تتسبب في رفع درجة حرارة الأرض ، و هل يوجد مثلها في بقية بلدان العالم؟!!.
تلقّى إجابات عن كل أسئلته من صديق والده ، فعلم أنها مصفاة بترول ، ويوجد مصافٍ مثلها في معظم بلدان العالم وخاصة النفطية منها ، أو التي تمر عبرها خطوط البترول . كان مكسيم فرحاً بعد انتهاء الزيارة ، فقد عادوا إلى القرية بغرسات الخروب ، وكل حديثه مع والده في أثناء العودة كان عنهما . وقبل وصولهما بقليل صمت مكسيم ، لقد أعاده الشرود إلى تلك المصفاة وتلك الشعلة التي لا تنطفئ ، وأثرها على درجة الحرارة ، وعلى تلك الأرض الجرداء القاحلة التي تجاورها ، وأخذ يفكر في دخان المدينة المتصاعد الذي شاهده عندما دخلوها ، و كذلك دخان السيارات ، حتى ظن والده أنه نائم ، و كي يتأكد من ذلك ناداه باسمه ، فرد عليه على الفور ، ثم تابع مكسيم تفكيره ، وسأل نفسه عن زراعة الخرّوب ، ولماذا لا يتم الإكثار منه؟؟! ، كون تلك الشجرة غير مرغوبة للحطابين ، و غير مفيدة للاستخدامات المنزلية ، مما يشكل حماية ذاتية للغابة ، و يؤدي إلى تكاثر هذا النوع من الأشجار ، وبالتالي رفد الغابة والطبيعة بما يفيدها ، و يساهم في حمايتها والتخفيف من التلوث المسيطر . وصلوا القرية مع مغيب الشمس و لم يُتَحْ لمكسيم غرسهما في نفس اليوم ، فما كان منه إلا أن وضعهما في مكان آمن بعد أن قام بسقايتهما بوساطة الكوب الذي يستخدمه للشرب . في صباح اليوم التالي ، اليوم الثاني من العطلة الأسبوعة ، ذهب برفقة والده بواسطة الجرار الزراعي بعد أن وضع الغرستين في الصندوق
بجوار المنشار ، وإلى جانبهما المعول الذي سيقوم بوساطته بحفر الحفرة المناسبة لكل منهما ، و بعد وصولهما ذهب كل منهما إلى مبتغاه ، فحمل والده منشاره واتجه إلى مكان القطع ، بعدما أرشده إلى طريقة الزراعة . قام مكسيم بمعاينة أمكنة عدة ليختار أفضلها كي يزرعهما ، فتناول المعول و بدأ الحفر ، كان يستعمل يديه أحياناً في تعزيل التراب من الحفرة ، وبعد الانتهاء من الحفر استعان بوالده ليتأكد من أنهما أصبحتا مناسبتين . وضع والده منشاره جانباً ، وحضر إلى مكان الحفرتين ، و بعد أن عاينهما تناول المعول و بدأ الحفر ليزدهما عمقاً و اتساعاً ، ثم أعطاه بعض الإرشادات لكيفية الغرس و طلب منه سقايتهما من الخزان المعبّأ في الجرار ، قبل أن يعود لمتابعة عمله . لقد أخذ يضع في مقطورة الجرار ما استطاع تقطيعه من جذوع الأشجار ، و بينما كان مكسيم يلتقط بعض الصور للغرستين من خلال جواله ليعرضهما على والدته وعلى زملائه في المدرسة ، عندها اخترق صوت والده مسامعه ، طالباً منه الصعود إلى الجرار لأجل العودة ، مما جعله يستعجل في التقاط بعض الصور الأخرى للغابة . وهما عائدان إلى القرية كان مكسيم ينظر إلى ذلك المنشار القابع فوق جذوع الأشجار المقطّعة بحقد ، حيث خطر بباله التخلص منه ، وأخذ يفكر في كيفية تعطيله بعيداً عن الأعين ، و من دون أن يترك أثراً يدل عليه ، فهو يعلم المكان الذي يضعه فيه والده . تساءل : هل أقوم بقطع المسننات أم بفك بعض البراغي والعزقات
أم بقطع بعض الأسلاك و التوصيلات ؟ . عندما وصلا القرية ، ولحظة دخول مكسيم المنزل حيث كانت والدته أمام المدخل ، كانت التحية لوالدته سريعة دون قبلات لقد بدأ يشرح لها عن العمل الذي قام به ، ثم عرض عليها الفيديو الذي قام بتصويره للمكان و طريقة الغرس ، فأثنت عليه و شجعته على فعلته ، قائلة : أحسنت أيها المهندس الزراعي الصغير ، وقف مليّاً عند هذه الكلمة و راح يفكر بها ، و بدأ يكررها في ذهنه ثم قال بصوت خافت و هو يحرك شفتيه ببطء : جغرافية ، مهندس زراعي . نظرت إليه والدته و نادته : هيْ مكسيم ، ما بك ماذا تريد ، فأجابها : لا شيء لا شيء . ثم تابعت والدته حديثها معه ، و أوصته بأن يقوم بسقايتهما باستمرار ، و بعد أن أكد لها أنه سيفعل ما طلبت منه ، اختلى بنفسه و أخذ يفكر في تعطيل المنشار . وبعد محاكمة عقلية و ذهنية صامتة ، اتخذ قرار التعطيل و انتظر الوقت المناسب ، تناول أحد المفكات المتواجدة في الصندوق الخاص بالمعدات ، ثم ذهب باتجاه مكان تواجد المنشار ، حيث كان يسير ببطء وينظر في كافة الاتجاهات كي يتأكد بأنه لن يَرَهُ أحد ، كان يفعل كما يفعل الثعلب الماكر عندما يتربص بفريسته ، إلى أن دخل إلى الغرفة مكان تواجده . لاح له و هو يستريح في أحد زواياها و قد بانت عليه أثار فعتله في الأشجار ، مد يده وأخذ يتحسسه ويتلمّسه ، ثم وضع المفك على أحد العزقات ، كان خائفاً و متردداً ، و قبل أن يبدأ بفكها فكّر بكلام والده
بأن عمله على هذا المنشار يؤمن لهم قوت يومهم من الغذاء والكساء والبناء ، فتراجع وعاد مسرعاً على عكس حضوره البطيء . أعاد المفك إلى مكانه وذهب إلى محفظته المدرسية ، أخرج كتبه ودفاتره وأقلامه وبدأ بتحضير دروسه مع شيء من الخوف . في المدرسة معظم أحاديثه كانت تدور عمّا فعله في الغابة ، فيقص على زملائه الطلبة قصصاً عن زراعة الأشجار و يحثهم و يشجعهم على أن يفعلوا مثله ، فمنهم من استجاب ، و منهم من أدار ظهره . لم يترك مكسيم الغرستين بحالهما ، بل لاقتا منه كل الاهتمام المطلوب ، فكان نموهما مميزاً ، وهذا ما كان يلاحظه أي زائر يصحبه مكسيم إليهما . في إحدى المرات و خلال استراحته عندما كان جالساً أمام التلفاز يتابع أحد البرامج التي يهتم بها ، شاهد صوراً لبركان ثائر و قد سمع المذيع و هو يتحدث عنه ، و خلال بث الخبر كانت المشاهد و الصور التي بثت تظهر الحمم الملتهبة و المنصهرة ، و الدخان المتصاعد ، و الرماد المتطاير و المنتشر ، فسأل نفسه : ألا يؤثر هذا البركان على درجات الحرارة ، و هل يمكن السيطرة عليه كما يتم عند وقوع الحرائق ، و هل يمكن ذلك بواسطة سيارات الإطفاء أو الطائرات الخاصة ؟؟ . عادت والدة مكسيم من الرحلة السياحية التي رافقت بها وفداً زائراً من بلد تتواجد فيه مياه كبريتية ، وقد أحضرت منها عبوة صغيرة لمكسيم ، وعندما حضرت أخذت تحدثه عن تلك المياه ، وعن فوائدها ، وأماكن تواجدها ، ووعدته بزيارة لها
في أقرب فرصة . تناول العبوة وبدأ يتفحصها ، ثم أردف يردد عبارة : ( على جذع شجرة الخروب ) ، بعد أن علم أنها غير صالحة للشرب . مضت السنون وحصل مكسيم على شهادة التعليم المتوسط بتفوق ، وأصبح في مرحلة التعليم الثانوي ، أي ما قبل الجامعة . أصاب منشار والده العطل والاهتراء ، وكاد في أحد المرات أن يودي بحياة والده عندما أصابه في رأسه أثناء استخدامه ، مما أدى بوالده لترك العمل على المنشار ، و التفرغ للعمل في الحقول ، فأصبح لديه حقل من الأشجار المثمرة ، بعدما زرع مكسيم في رأسه تلك الفكرة . كان سعيداً وهو يرى ذلك البستان الجميل ، وخاصة عندما يكون في حالة الإزهار ، وأيضاً عندما يستنشق تلك الروائح العطرة للأزهار ويملأ رئتيه بالهواء النقي المشبع بالأوكسجين . لقد تأكد له أن مكسيم على حق ، وبأنه يجب على الإنسان أن يزرع ، لا أن يقطع ، فتُرفد الطبيعة بما يفيد الناس ويسعدهم ، وقال : علينا أن نعمل باتجاه ما هو خير للبشرية دائماً ، لقد كدت أن أدفع حياتي ثمناً لعملي على المنشار في عدة مرات ، لقد سببت الضرر به للغابة ، قضيت على أشجار جميلة ومفيدة ، أما العمل في هذا البستان فكله أمان . ما أشهى الثمار اللذيذة وما أطيبها ، وما أنقى الهواء ، أحسنت يا مكسيم يا ولدي ، كنت أظنك صغيراً وأنا أكبر منك ، وأعلم أكثر منك ، فتبين العكس ، فها أنا ذا أحصل على الفائدة الأكبر من العمل الحالي بجهد أقل وظروف أفضل ، أبيع محصولي وأحصل على المبالغ المالية
الكافية ، وأحصل أيضاً على الحطب من الأغصان الزائدة واليابسة بكل يسر وسهولة ، آه يا مكسيم كم أتمنى أن تصبح مهندساً زراعياً . تكاثرت أشجار الخروب ، وبدأ أهل القرية الاهتمام بتلك الشجرة والإكثار من زراعتها ، لقد علم مكسيم أنه يصنع من ثمارها مادة تسمى الدبس ، طعمها شهي يشبه العسل وله فوائد كثيرة ، وتبين أن النحل يحب أزهارها ، ويجني منها رحيقاً شافياً لكثير من الأمراض المستعصية ، ولوحظ تكاثر خلايا النحل في القرية ، وبعض الأهالي كان يأخذ ثمار شجرة الخروب الحلوة المذاق ليقدمها غذاء لحيواناته الأليفة من البقر والماعز والغنم ، فيظهر أثرها في طعم الحليب الذي يحصل عليه منها . لقد غدا مكسيم علماً في القرية ، وأصبح كل أهل القرية يلقبونه بالمهندس الزراعي ، مما اضطره للحصول على المراجع العلمية التي تفيده في المناخ والزراعة ، فأكثر منها ، حيث كان والده يمده بالمال اللازم لشراء تلك الكتب ، وكذلك قام بالاشتراك عبر الشبكة العالمية ( النت ) ، ليستعين بها عند حاجته في الحصول على المعلومات المطلوبة . لقد ساهم في انتشار الزراعة الحديثة في القرية ، و التي تساعد على الزراعة الجيدة ، بالإضافة لمتابعته شؤون الغابة إلى أن تكاثرت أشجارها وخاصة الخروب منها ، والذي انتشر بكثرة . لقد أصبحت الغابة مقصداً للزائرين من المدينة والقرى المجاورة لقريتهم ، بغية التمتع بالهواء النقي ، وسكون الطبيعة وجمالها ، فكانوا يسمونها أحياناً غابة مكسيم ، وأحياناً غابة الخرّوب .
كان مكسيم يجلس بشكل دائم على الشرفة المطلة على الغابة في منزله عندما يودّ الاستراحة ، ينظر إليها من بعيد ، فيرى تلك الحقول والأشجار ، وينظر إلى السماء والشمس في النهار ، ويراقب القمر والنجوم في الليل ، يفكّر بالهواء والحرارة والطبيعة ، ويتساءل : هل تحترق الأرض إذا ارتفعت درجة الحرارة كثيراً ، ويحترق كل من عليها ؟؟ ، ومنها الأشجار التي زرعتها ، وتلك الغابة التي ينعم الناس بفوائدها . هذه الأسئلة دفعته للتفكير في اختيار الاختصاص المناسب له عند دخوله الجامعة و التي لم يعد يفصله عنها سوى سنة دراسية واحدة ، وأخذ يتساءل بينه وبين نفسه ، هل تلك المواضيع من اختصاص الهندسة الزراعية ، أم البيئة ، أم الجغرافية ، أم هناك اختصاصات أخرى لم أسمع بها ؟. وكان خلال جلسته يفكر في موضوع قطع الأشجار كثيراً ، وبعدد سكان العالم الهائل ، ويقول : لو كل فرد في العالم يغرس غرسة لكانت تغيرت أحوال الطقس وتحسنت ، ومنها الحرارة . بدأ مكسيم يهتم بشؤون والده الزراعية ، فأخذ يساعده في تسويق منتجاته إلى الأسواق ، وفي إعداد مستلزمات كل موسم لغراس الأشجار التي سيغرسونها ، حتى إنه ونتيجة لزيارته المتكررة إلى أبي فرح صديق والده الذي يسكن بجانب مصفاة البترول ، جعله يزرع في قطعة الأرض المتواجدة أمام منزله بعضاً من الغراس ، فتحولت بفعل ذلك وبفضله من أرض جرداء إلى حديقة منزلية جميلة ينعم مرتادها بالراحة والصفاء ، وكان أبو فرح يحصل من خلال أغصانها اليابسة أيضاً على ما يلبّي حاجته من أجل الشواء أحياناً .
غدا مكسيم رفيق والده إلى الحقول ، وخاصة عندما يكون العمل في البستان القريب من المنزل ، فكان يعاون والده في الأعمال الزراعية ، وفي تربية النحل ، وخاصة عند قطاف العسل . لقد أحب هذا العمل كثيراً ، وكان يفكر دائماً في النباتات والحشرات ، الماء والهواء ، و أخذ يلاحظ تأثيرها على بعضها البعض ، وتأثير الطبيعة عليها ، لاحظ أن لكل منها فائدته و مضاره ، وكيف يمكن للإنسان الحصول على تلك الفوائد ، و تحاشي الوقوع في أضرارها ، أما الشجرة فكان يرى فيها نبعاً للخيرات ، فهي التي تمد الطبيعة بالأوكسجين و تنقي الهواء من غاز الكربون الخانق . عندما رأى والده ذلك النشاط و الإهتمام و القدرة ، أوكل إليه العمل وفقاً لما يرغب و وفق الإرشادات ، فأصبح يعمل مساعداً ، وترك له أيضاً خيار جني الثمار وبيعها ، وكذلك سمح له التصرف بموسم العسل . لقد أيقن بأن مكسيم أصبح قادراً على التصرف وإدارة الأمور نحو الأفضل ، حتى أنه لاحظ أن مكسيم زاد من المبيعات ، وبالتالي ازدادت المدّخرات ، فكان يدّخر مصروف عامه الدراسي القادم خلال العطلة الصيفية . والدته تريده أن ينال درجة عالية في العلم ، لذلك أخذت تشجعه على الدراسة ودخول الجامعة ، خاصة و أنه من المتفوقين في المدرسة ، فقد خطر ببالها أن يدرس الهندسة المدنية ، فمن خلال عملها كانت ترى أهمية هذا الاختصاص ، بينما والده كان يشجعه ليصبح مهندساً زراعياً .
عندما كان مكسيم يرافق والده عائداً من السوق ، بعد أن باع إنتاجه من الثمار التي قام بجنيها من الحقل ، جاءت استجابة والده سريعة لرغبته في زيارة أبي فرح صديق والده ، أراد مكسيم من خلال تلك الزيارة أن يرى كيف أصبحت تلك القطعة من الأرض المجاورة لمنزل أبي فرح بعدما شجعه على زراعتها . بعد أن غادرا المدينة اتجها نحو مكان سكن صديق والده ، أخذ مكسيم يتخيل دار أبي فرح ، فكان يرى فيها الخضرة والنضارة ، وأصبح في شوق للوصول إليها سريعاً ، كان يشعر ببطئ سير العربة على الرغم من أن والده كان يقودها بالسرعة القصوى المسموح بها . أخيرا بلغا المكان ، وعند وصولهما أيقن أن ما تخيله أصبح حقيقة ، وقعت عيناه عليها فوراً ، وبعد أن أمعن النظر فيها ، وجد الفسحة الخالية أمام المنزل قد تحولت إلى حديقة جميلة ورائعة ، جلسوا فيها نزولاً عند رغبته ، وتحت ظلال الشجيرات النضرة الممتدة الأغصان ، بعد أن قام أبو فرح بوضع الكراسي والطاولة فيها تحت ظل إحدى العرائش . بانت على محياه مظاهر الفرح و هو يستمع إلى حديث أبي فرح عن تلك الحديقة ، وخاصة عندما نسب إليه الفضل في وجودها ، ولكن ما أزعجه خلال تلك الزيارة منظر الدخان المنبعث والمتصاعد من تلك المصفاة القريبة ، وذلك اللهب الذي لا ينطفئ ، لقد أحس به وكأنه يريد أن يحرق الكون بأكمله ، وتساءل : ألا يمكن تلافي تلك النار المتوقدة وإطفائها؟؟!. سأل أبو فرح : هل بإمكانه زيارة تلك المصفاة ، فأفاده بأن ذلك ممكن ، فلم يغادر المكان إلا بعد أن حصل على وعد بمساعدته على زيارتها ، على أن تكون
الزيارة قبل انتهاء العطلة المدرسية ، وخاصة أن العام القادم سيكون عامه الدراسي الأخير قبل دخوله الجامعة . ودّع أبو فرح ضيفيه العزيزين بمثل ما استقبلهما به من محبة ، على أمل اللقاء القريب في قرية أبي مكسيم بصحبة جميع أفراد العائلة . قاد والد مكسيم السيارة عائداً إلى قريته ، وفي الطريق الواصلة إليها بصحبة ابنه الذي كان طوال طريق العودة يحدثه عن الدخان والغازات ، وعن الاحتراق المستمر والدائم الناجم عن ذلك اللهب الذي لا ينطفئ في تلك المصفاة ، فما كان من والده إلا أن غير له الحديث بعد أن أعياه ما سمعه منه ، فسأله عمّا يريد فعله بالمبلغ المتأتي من ثمن المحصول الذي كان قد وعده به ، فكانت مفاجأة له ولم يكن يتوقعها عندما أبلغه بأنه سيشتري بها غراساً . لقد ظن أنه سيقوم بشراء موبايل حديث ، أو دراجة نارية أو هوائية ، أو بعض قطع الثياب كما يفعل أقرانه من الشبان عادة ، ولم يخطر له أنه سيشتري بها غراساً ، وكانت المفاجأة أكبر عندما حدد له نوع الغراس التي يريد شراءها جواباً على سؤاله له عن نوعيتها ، فقد أبلغه بأنه سيشتري غراس الخرّوب ليقوم بزراعتها ضمن أرض المصفاة . قال له : ألا تنتظر لحين زيارتها والحصول على الموافقة ، فقد لايسمح لك بمثل هذا لعمل ، وهو يحتاج إلى بعض الموافقات والإجراءات الأخرى أٌيضاً .
رد عليه : أدّخرهم إلى أن أحصل على الموافقة ، فما كان من والده إلا أن قال له : لن أعطيك المبلغ . صمت مكسيم وبدأ يفكر ويتساءل هل يفعل والده ذلك ؟، وماذا سيفعل لأجل الحصول على الغراس في حال امتنع عن إعطائه المبلغ حين الحاجة إليه ، وخاصة في حال حصل على الموافقة من شركة المصفاة على الزراعة؟ . عندما وصلا القرية نزل مكسيم من السيارة أولاً ، ثم تبعه والده الذي لازال منزعجاً من أفكار مكسيم في هذه المرة ، فكان يردد بعض العبارات وهو يدخل المنزل ، وبصوت مسموع : سيأخذ نقودنا ليحرقها في المصفاة . سمعه مكسيم فلم يحرك ساكناً ، فهو شاب صبور وبقي صامتاً يفكر بما يفعله معظم الناس لأجل الحصول على المنافع المادية القريبة والعاجلة والشخصية ، ولو على حساب الأمور الضرورية العامة والهامة ، فمكسيم يفكر في زراعة الغراس في أرض المصفاة ، ليخلق نوعاً من التوازن ؛ فبمقابل تلك الشعلة التي تطرح الغاز السام ستتواجد الشجرة التي تطرح الأوكسجين النقي الذي يفيد كل الناس . لم يكن يمضي الأسبوع الثاني على عودتهما من المدينة ، وبينما كان مكسيم يجلس في غرفته وراء الحاسب يستطلع بعض أنواع الزراعات المناسبة للأرض القاحلة والبيئة الصحراوية ، دخلت والدته وأعطته كيساً يتضح منه أن مبلغاً من المال بداخله ، سألها عنه ، فأجابته : إنه ثمن المحصول من والدك ، عندها علم أنه تراجع عن قراره فعاد وأعطاه المبلغ ليتصرف به كما يرغب ، أفرحه هذا الأمر ، وجعله يتأكد
بأنه على صواب وإلا لما كان والده قد عدل عن قراره ، ونفذ وعده بإعطائه ثمن المحصول . بعد ثلاث أيام يحين موعد عطلة نهاية الأسبوع ، إنه الوقت المحدد الذي اتفق عليه مع أبي فرح لزيارة المصفاة ، لذلك فهو يستعد لهذه الزيارة ، حيث بدأ بجمع المعلومات عن مصاف البترول وعن تلك المصفاة بالذات ، واستعان بالنت عن طريق محركات البحث المتاحة ، لمعرفة نوعية التلوث الذي تسببه تلك المصافي من خلال الدخان المنبعث منها ، واللهب المحترق فيها ، والروائح الكريهة التي تصدرها ، وكذلك عن نوعية الغراس التي تناسب البيئة الصحراوية ، وكميات المياه التي تحتاجها بعض أنواع الأشجار ، حتى أصبح بكامل الاستعداد للزيارة مع حلول الموعد المحدد لها . لم ينس أن يحضر معه لصديق والده عبوة مناسبة من العسل الشهي بطعم الخروب ، الشجر الذي قام بزراعته في القرية ، وأسهم في انتشاره . لقد كان مكسيم يعمل في الحقل والمزرعة دون كلل أو ملل ، بل بكل هناء وسعادة ، فيتفقد الأشجار والثمار وخلايا النحل وحظائر الماعز والغنم والبقر ، والتي أسهم في وجودها بالإضافة إلى بعض أنواع الطيور ومن بينها الدجاج ، فكان يستعين بالماعز والغنم للتخلص من الأعشاب بدلاً من المبيدات التي كان يعارض استخدامها لما لها من آثار ضارة على البيئة والإنسان ، فمن خلال استخدام الأعشاب علفا لحيواناته ، كان يحوّل تلك الأعشاب من شيء لا قيمة له إلى مواد نافعة ، فيحصل على علف طبيعي ويجنّب الأرض مبيدات ضارة تؤثر على
التربة والمياه الجوفية . وبعد انتظار وجده طويلاً ، حان موعد الزيارة المتفق عليها مع أبي فرح ، فجاءت لحظة ركوبه بجانب والده بسيارته الزراعية قاصدين المصفاة التي لم تكن مسافتها بعيدة ، مثار فرح وسرور له . في الطريق كان يتلقى من والده بعض التوجيهات حول ما يمكن فعله برفقة أبي فرح ، فسأل والده عن صديقه و دراسته وطبيعة عمله في المصفاة ، فتلقى كل الإجابات التي تفيده . لاحت لهما الضاحية السكنية ، مكان إقامة أبي فرح ، أي أصبحا قريبين ولم تعد المسافة الزمنية والمكانية بالبعيدة ، فانفرجت أسارير مكسيم الذي بدأ يتأهب للنزول من السيارة ، ولم تكد تلك الأغنية الجميلة التي يستمع إليها من راديو السيارة تنتهي حتى بدأ والده باللاتجاه بها إلى الحارة التي يقطنها صديقه ، وأخيراً هاهما أمام المنزل . ركنها أبو مكسيم أمام باب المنزل في المكان المناسب ثم ترجلا منها ، حمل مكسيم صندوق الفاكهة الذي أحضره من بستانه في القرية لأبي فرح ، بينما والده قام بقرع الجرس ، قليلاً وانشق الباب ليطل أبو فرح مرحّباً . دخل مكسيم ووالده المنزل بسرور كما هو حال الصديق ، وكثرت الأسئلة ، وكان معظمها حول مكسيم ومزروعاته وأعماله و دراسته ، ثم تناولا القهوة وبعض الحلويات التي أعدتها أم فرح وقدمتها لهما . سأل مكسيم عن المصفاة ، وأبدى رغبة في الذهاب إليها دون تأخير ، وبعد استراحة لبعض الوقت ونزولاً عند رغبته أقلعوا باتجاهها ، المسافة قريبة فقد وصلوها سريعاً ، وكان الدخول إليها ميسراً . ركن أبو مكسيم السيارة في المرآب المخصص ، ثم نزلوا منها ليبدأوا جولتهم ، كان أبو فرح فرحاً وهو يشرح لمكسيم عن كل شيء ، فما يهم مكسيم هو المكان الذي سيزرع فيه الغراس .
كان يعاين كل الأمكنة بعين نافذة وفكر متقد ، ولاحظ عدم وجود أية غرسة في تلك الباحات الواسعة ، لا بل لم يجد أية نبتة ، ولاحظ أيضاً وجود بعض التمديدات لأنابيب مياه ، وأثناء تجواله كان ينظر إلى ذلك اللهب المتصاعد من أعلى عامود منتصب بتلك المنشأة وكأنها فتيل صاعق معد للأنفجار ، وفي أماكن عدة وهو يتجول في باحاتها تحاشى المرور بها خشية الانزلاق نظراً لوجود بعض المواد البترولية اللزجة المنتشرة عليها . بعد ساعة من الوقت الذي استغرقه مكسيم ليطلع على ما يريد ويحصل على ما أراد ، بادر إلى زيارة إدارة الشركة للحصول على الموافقة لأجل المباشرة بزراعة الغراس في الأماكن التي وجدها مناسبة ، في حال وافقت الشركة على هذا العمل . هناك في إدارة الشركة وجد صعوبة في الحصول على الجهة التي يمكنه بحث الموضوع معها ، فكانت كل جهة تعطف على الأخرى ، ومنهم من أفاد بأن هذا الموضوع من اختصاص جهات أخرى غير الشركة ، وبعد أن كان يهمّ بالخروج عائداً من حيث أتى دخل برفقة أبي فرح أحد المكاتب النقابية وبعد محادثة استمرت إلى مابعد الدوام الرسمي للشركة ، وعده بتأمين الموافقة ، ومما ساهم في ذلك أنها ستتم على نفقته الخاصة من دون أن تتكلف الشركة بأيّة مبالغ . أثنى أبو فرح عليه وهم يغادرون الموقع عارضاً المساعدة بما يستطيع فعله ومجاناً ، فلم يطلب منه مكسيم سوى متابعة الموضوع لحين الحصول على الموافقة ، والسقاية بعد الزراعة في حال حصولها ، وقد وعده بالعمل لأجل تحقيق المطلوب مع المساهمة بالقيام بالأعمال التي تتطلبها الزراعة .
فتحت المدرسة أبوابها ، وبدأ مكسيم التحضير الجيد لدروسه منذ اليوم الأول ، فهو كعادته يريد المحافظة على تفوقه من أجل الوصول إلى الاختصاص الذي يفكر في دراسته ، وعلى الرغم من ذلك لم يكن يتأخر عن متابعة أموره الأخرى ومنها الغراس التي تمت زراعتها في أرض المصفاة حيث كان يسأل أبا فرح عنها دائماً . استعاد مكسيم من محرك المنشار الذي أصبح غير صالح للاستخدام بعض القطع ، وحولها إلى مضخة ماء يستفيد منها في ري المزروعات للمسافات البعيدة . و في المدرسة غدا مكسيم كمركز الدائرة يجتمع أقرانه حوله يومياً يشاركهم بعض المعلمين ، فيحدثهم عن أعماله وأفعاله وعن أثرها في الطبيعة والحياة ، وكان يحذرهم من خطر المخلفات الصناعية من دخان وغازات سامة على الحياة البشرية ، ويحثهم على الاهتمام بالطبيعة ، حتى أنه كان يصطحب بعضاً منهم إلى حقوله ومزرعته ، ويزودهم بمنتوجاته من الثمار والفاكهة اللذيذة التي ينتجها من مثل العسل ومشتقات الحليب والألبان ، فأخذوا ينادونه : مكسيم الحكيم . كان مكسيم يفكر دائماً في الاختبارات النهائية التي مابرح ينتظرها ، ليس من أجل الحصول على الشهادة وحسب ، وإنما لاستعجاله من أجل دراسة الاختصاص الذي يرغبه في الجامعة ، والذي لم يحدده بعد ، علماً أن كلاً من والديه أبدى رغبته في أن يختار مكسيم الاختصاص الذي يحبه أكثر من مرة .
استشارته والدته ذات مرة برغبتها في الاستقالة من العمل ، فلم يوافقها الرأي ، ونصحها بأن تتابع عملها وتقدم الخدمات للراغبين من الناس ، فهي من الأمور الممتعة ، ونصحها بأن تتابع عملها حتى سنّ التقاعد . وكذلك عندما أبدى والده رغبته في بيع الجرار الزراعي عارضه معدداً له فوائد الجرار لأعماله الزراعية اليومية ، وبيّن له الخسائر التي قد تلحق به فيما لو بِيْعَ ، فأخذ بالنصيحة ، وتبيّن فيما بعد أنه كان مصيباً في رأيه . حضر أبو فرح لزيارة عائلة أبي مكسيم في القرية ، فكانت الزيارة مفاجئة لم يكن أبو مكسيم يتوقعها في هذا الوقت . أفرحه حضور أبي فرح ، وتبين له أنه أحضر معه مقصّاً معدنياً لتقليم الأشجار وقدمه لمكسيم هديّة ، وأعلمه أنها مقدمة من شركة المصفاة تعبيراً عن شكرهم لجهوده . فرح جداً وهو يستمع لحديث أبي فرح عن تلك الشجيرات ، وأنها أصبحت محطّ إعجاب جميع من يعمل في المصفاة ، وطمـأنه بأنها تلقى العناية اللازمة وخاصة السقاية التي يتابعها أبو فرح عملاً بالوعد الذي أعطاه إياه حين زراعتها . سأله أبو فرح عن أحواله الدراسية ومدى استعداده للاختبارات النهائية التي أصبحت قريبة جداً ، فجاءه الجواب من والده الذي أيده مكسيم مضيفاً إليه بأن الفضل يعود لوالديه اللذين ما برحا يوفران له الجو المناسب ومتطلباته الدراسية . ومع انتهاء الزيارة التي كان لأبي فرح فيها زيارة إلى حظيرة الماعز ، اطّلع على تلك الأصناف الهامة والمرتفعة الثمن ، واطّلع أيضاً
على بعض الطيور المتواجدة ، منها الطاووس الذي فرد ريش ذيله فغدت تلك الريشات لوحة فنية جميلة . عاد أبو فرح إلى منزله بزوجين من الطيور التي أحبها و أحب تربيتها ، بعدما شرح له مكسيم عن فوائدها الاقتصادية والنفسية التي لم تكن تخطر بباله ، إذ كان يرى فيها منظرها الجميل وصوتها الحسن فقط . انكفأ مكسيم قليلاً عن متابعة الأمور التي لا تتعلق بالدراسة ، وتفرغ تقريباً للتحضير للامتحانات التي اقترب موعدها ، لم ينتظر من أحد أن يحثه على ذلك ، ولكنه كان يتلقى التذكير المستمر من والديه . فرح أبو فرح بالطيرين اللذين أحضرهما معه وبدأ بتربيتهما ، فكان يجتمع مع أبنابه حولهما ينظرون إليهما وكل منهم يريد التقاطهما ومداعبتهما وتقديم الغذاء لهما ، ومنه كسرات الخبز وبعض القمح ، وعندما لاحظ أبو فرح سعادتهم وسرورهم قال في سره : كم أنت رائع يا مكسيم ، كنت أفتش عن عمل أسعدهم به و لم يخطر ببالي ذلك .. في القرية ارتفعت درجة حرارة أبي مكسيم فأخذ يتناول دواء خافضاً للحرارة ، نصحته زوجته بزيارة الطبيب لكنه لم يفعل ذلك ، فهي تريده أن يتعافى كي لا يؤثر مرضه على دراسة مكسيم الذي سيبدأ بتقديم امتحاناته قريباً ، وقلقت على زوجها الذي بدا شاحب الوجه ، وما زاد من قلقها سعاله المتكرر الذي لم يكن ينفع معه تناول العسل وفقاً لما كان يتم سابقاً ، إذ كانت بضع جرعات من العسل لبضعة أيام كافية لإعادته إلى حالته الطبيعية ، ولم تستطع فعل شيء بل رضخت لرغبته بأنه سينتظر لحين انتهاء مكسيم من تقديم اختباراته . سمع مكسيم
سعال والده المتكرر ، الذي كان يصل إلى مسامعه في غرفته التي كان يحضّر دروسه فيها ، وقد أعاره الانتباه طويلاً ، حتى أحسّ من طريقة سعاله بأن حالته الصحية سيئة . ترك كتابه من يده ، و خرج من غرفته متجهاً إلى مكان وجود والده فرأه يرتشف كأساً من الشاي ، نظر إليه ثم خاطبه قائلاً : أراك غير مرتاح ياأبتي ، رد عليه بأنه يشعر ببعض الإرهاق والألم في الصدر . سأله : و لماذ لم تذهب إلى الطبيب ، فأخبره بأنه تناول بعض المشروبات مع العسل ، لم يقتنع ، مما جعله يطلب منه الاستعداد لزيارة الطبيب فوراً ، و قد اتصل بخاله آدم من أجل قيادة السيارة بدلاً من والده . لم يستطع والده إقناعه بتأجيل هذه الزيارة ، كانت الساعة الحادية عشر ظهراً عندما غادروا المنزل ، لم تكن والدته موجودة ، وفي طريقهم إلى عيادة الطبيب كان مكسيم ينظر إلى والده بحزن وألم ، وكان يقارن بين حالته هذه ، وبين حالته عندما كان يقوم باجتثاث أشجار الغابة . وصلوا العيادة وتأبط مكسيم ساعد والده ليساعده في ولوجها ، هناك أجرى له الطبيب الفحوصات الممكنة ، ووصف له بعض الدواء ، وطلب له بعض التحاليل . دفع مكسيم تكلفة الزيارة وثمن الدواء عندما أحضره من الصيدلية ، اصطحب والده إلى مخبر للتحاليل الطبية بغية إجراء بعض الفحوصات الضرورية التي طلبها له الطبيب ، أحس أن والده تحسن بعد الفحوص وبعد أن أسعفه الطبيب بحقنة تسهم في معالجته . في المختبر أُخِذت العيّنات المطلوبة وأعطي موعداً للحصول على النتيجة ، ثم عادوا إلى القرية وهناك وجدوا أم مكسيم بحالة من القلق ،
فهي لم تكن تعلم سبب عدم وجودهما في المنزل ، ولم تستطع الاتصال بمكسيم عندما عادت إلى البيت ، لقد كان جواله في البيت ، هو نسيه ولم يتذكره ليحمله معه حيث كان في عجلة من أمره . سألته عن صحة والده وماذا فعل ، فأخبرها بما جرى ، و أخبرها عن حالة والده و بأن الطبيب طلب منه إجراء بعض التحاليل و الصور الشعاعية ، و أنه سيقوم بالحصول عليها بعد يوم غد . سألته : أليس لديك امتحان؟!! نعم نعم ، و لكن لدي الوقت الكافي ، لا تقلقي . ترك والده يرتاح بعد أن تناول بعض حبات من الدواء التي وصفها له الطبيب في أثناء الزيارة ، مع شراب خاص للسعال ، و ذهب إلى غرفته يتابع تحضير دروسه ، لكنه بقي قلقاً على حالة والده الذي بدا عليه التعب و الإرهاق بوضوح . فكر بحالته ملياً ، ثم علل سبب مرضه وفقاً لما يرى ، فظن أن عمله السابق في إنتاج الفحم و ما ينتج عنه من غازات و مواد سامّة و هباب ناعم يدخل إلى الرئة من دون أن يلحظه ، هم أسباب المرض ، و خشي أن يكون قد أصابه المرض الذي لا شفاء منه كما يعتقد بعض الناس ، و أخذ يتساءل : هل الغابة تنتقم لنفسها مما فعله بها ، و هل تثأر ممن يعتدي عليها؟؟!!!، بعدها نام ليلته وهو يفكر في حالة والده . تحسنت حالة أبي مكسيم قليلاً بعد تناول الدواء الذي وصفه الطبيب لكن سعاله لم يتغير وخاصة في المساء .
قدِم أصدقاء مكسيم لزيارته ، فكان كل حديثهم عن الاختبارات التي ستبدأ غداً ، أما والدته فقد قدمت لهم ما أمكنها من واجب الضيافة وخاصة من المشروبات المفيدة وشجعتهم و حثتهم على الدراسة . في الصباح ، و عندما غادر مكسيم المنزل ، وقفت والدته تصلي لأجله ، لقد بدأت امتحاناته ، منذ اليوم الأول لم يكن يجد أي صعوبة في الإجابة ، و بشكل تام , وعن جميع الأسئلة . وبعد أن أنهى اختباره للمادة الثالثة ذهب إلى المختبر وفقاً للموعد المحدد ، فحصل على نتائج التحليل ، ثم قصد عيادة الطبيب المعالج ليعرضها عليه . في العيادة ، وبعد أن طال انتظاره فيها لحين إتاحة الفرصة له ، عاين الطبيب الصور و التحاليل ، فتأكد له ما كان قد ظن به سابقاً عندما عاينه ، إنه مصاب بورم في الرئة ، وعندما أخبره الطبيب تغيرت ملامح وجهه وسرح بأفكاره بعيداً وبدأ يساوره القلق ، ولكن على الرغم من قلقه و اضطراب تفكيره ، تابع امتحاناته كما يجب حتى آخر اختبار . لقد تفرغ بعدها لمساعدته في الحصول على العلاج و المداواة ، وأخذ ينتظر نتائج امتحاناته، وكان يحزنه وضع والدته عندما علمت حقيقة وضع والده الصحي ، حيث أصبحت مشغولة البال قلقة ، فكان يطمئنها بأن الشفاء ممكن ويعرض لها بعض الحالات المماثلة التي حصل فيها الشفاء ، وقال لها : عليكِ مساعدته في ذلك ، فقالت : بالتأكيد سنكون إلى جانبه و نقدم له الدواء و الغذاء و ما يحتاج إليه . أجابها : هناك ما هو أهم من ذلك ، فسألته على الفور : و ما هو؟
رد عليها : هو إرادة الشفاء و الخير ، فعندما نفكر في أنه سيتعافى ، يعود بصحة جيدة ، و ننظر إليه بهذه الصورة ، يكون ذلك عاملاً إيجابياً للشفاء ، وفي حال أخذنا نخاف عليه من الأسوأ ، سيكون ذلك سبباً في فشل العلاج . وقفت والدته تفكر فيما سمعته ، ثم تساءلت : أمكسيم يعمل بالسحر ؟!! ، و هل هو مميز في تفوقه و أعماله و فكره من وراء ذلك؟!. سألت مكسيم : و كيف لي أن أفعل ذلك و هل من طريقة أو أسلوب أو عمل عليّ القيام به ؟، فردّ : ليس لدينا إلا أن نفكر في أنه سيشفى و يعود سليماً معافى ، ونتمنى له الخير و نتخيله بأنه في صحة جيدة ، فقالت : يا لها من طريقة جميلة للشفاء . أخذ مكسيم بيد والده فكان رفيق دربه إلى المشفى ، و عيادات الأطباء ، و المختبرات الطبية و الصيدليات ، ولم يدعه ينقطع عن عمله ، فكان أيضاً يرافقه إلى الحقول ، فيزرع و يجني و يعمل بقدر استطاعته ، وبحسب حالته التي كانت تسوء أحياناً وتتحسن أحياناً . كان والده يسأله باستمرار عما سيقوم به من أعمال و إن كانت مناسبة له أم لا ، فقد سأله مرة : ما رأيك يا مكسيم أن تدرس الطب و تصبح طبيباً ، فعلى ما يبدو هذا مناسب لك . سؤال والده هذا جعله يتساءل في نفسه بأنه لماذا لم يخطر على باله يوماً أن يكون طبيباً ؟، فعلى ما يبدو أنه سيضاف إلى ألقابه ٌ
لقب آخر ، فبعد رعايته لوالده ، و مساعدته في العلاج و تناول الدواء ، سينادى له : الطبيب مكسيم . لقد تتالت ألقابه ، فكان في البداية وحش الغابة ، ثم بطل الغابة ، ثم المهندس الزراعي ، و من ثم الطبيب مكسيم ، فالطبّ مهنة رائعة تهتم بصحة الإنسان التي هي غايته في الحياة ، فما بعد العافية أي ثروة . تلقت والدة مكسيم رسالة من شقيقتها المتزوجة من رجل يعمل في منجم للفحم في بلد أجنبي ، فتبيّن لها بعد ما اطّلعت على ما جاء فيها بأنها أرسلت إليها مجموعة وثائق تساعدها في أن تقوم بزيارتها إلى هناك في حال رغبتها في ذلك . أبلغت مكسيم لتستطلع رأٌيه في العرض المقدم لها من شقيقتها لجهة قبوله أو رفضه ، و قبل أن يقدم لها النصيحة ، بادر إلى النت و استعان بمحرك البحث ( جوجل) لمعرفة مزايا تلك الدولة ، و موقع ذلك المنجم من الكرة الأرضية ، فاستطاع الحصول على بعض الصور للموقع و للمكان الذي تقيم فيه خالته ، ثم عرض تلك الصور على والدته ، و أبلغها بالمعلومات التي حصل عليها ، فتعجبت من ذلك و هي ترى تلك المناظر ، سألته: ألا يمكنني رؤية شقيقتي ؟ أجابها : طبعاً ، لكن ذلك يتم بطريقة أخرى عبر السكايب ، سألته : وماهذا السكايب؟، فأجاب : إنه برنامج يمكّنك من رؤية من تتحدثين إليه ولو كان بعيداً عنك . سألها : هل تفكرين حقاً بزيارتها؟
فردت : نعم ، و إنني في شوق إليها ، فمنذ أن تزوجت و سافرت منذ أكثر من عشرين عاماً لم أرَها وجهاً لوجه . لقد تزوجت قبلي وسافرت مع زوجها إلى هناك ، ابنتها أكبر منك سناً ، و هي تدرس الهندسة البترولية ، عندما ذكرت والدته هذا الاختصاص أخذ يجمع معلومات عنه ليستطلع مجاله فوجده اختصاص واسع ، و خطر له اختياره . اصطحب والده في زيارة للغابة ، أجلسه إلى جانبه بالمقعد وراء المقود رغم ضيقه ، فهو الذي يقود الجرار ولأول مرة لكنه متمكّن من ذلك ، لقد أتقن قيادته وتدرب على يد والده ، و بعد وصولهما بدأا يتنقلان بين الأشجار ، أطالا المكوث تحت ظلال أشجار الخروب ، فجمعا بعضاً من ثمارها اللذيذة الطعم والطيبة المذاق ، وقام أبو مكسيم بتعبئة كيس متوسط الحجم منها ليقدمه لحيواناته من الماعز و الغنم و الأبقار ، فهي تتناوله بشراهة ، شاهد آخرون يفعلون مثله . لم يرَ مكسيم أحد يقطع شجرة ، بل كان كل من رآهم يجمعون ثمار الخروب و يتنزهون في الغابة ، في أثناء تجولهما لاحظ مكسيم أنه لا زالت آثار ما كان والده يفعله في الغابة واضحة ، و آثار ما فعله هو أيضا ، فهناك القطع وهنا الزرع , وشتان ما بين الاثنين ، أفعال مكسيم جميلة و رائعة وأفعال الوالد غير ذلك . لقد كبرت الأشجار التي زرعها و تكاثرت و انتشرت ، و بينما كانا يتنقلان من مكان لآخر في الغابة بين أشجارها و تحت ظلالها ، و إذ بطائر الغراب يفر من أحد أغصانها العالية ، نظر إليه مكسيم ثم نظر إلى أعالي الشجرة التي فر منها ، فتبيّن أنه بنى عشه
فيها فقال : يا له من طائر جميل يسكن هذه الغابة ، بالتأكيد إنه سعيد بها ، ما أحلى سكان الغابة ، من الطيور و الوحوش ، و الزواحف ، و الحشرات من النحل والفراشات الجميلة ، في المرة السابقة شاهدنا الثعلب بذيله الجميل و عينيه المتوقدتين و فرائه المميز و قبلها سمعنا عواء الذئب . ناداه والده قائلاً : إنظر إنظر يا مكسيم إلى هذه السلحفاة ، فاتجه صوبه ليشاهدها ، قام والده بإمساكها بيديه و رفعها إلى الأعلى ، نظر إليها مكسيم و قال: يالها من مخلوق عجيب !. عادا من الغابة قبل مغيب الشمس كي لا يتأخر والده عن تناول الدواء الذي اقترب موعده كثيراً . على أثر الزيارة وبفضل ثأثيرها ، نام مكسيم ليلته هذه بعمق ، فزيارة الغابة أراحته كثيراً وأزالت عنه الإرهاق الذي أصابه من جراء الدراسة و التحضير للامتحان مما فوت عليه مشاهدة المباراة النهائية للفريق الذي يحبه في كرة القدم ، و لكنه عندما علم النتيجة ، بعدما استيقظ من نومه ، لم يندم على ذلك . كانت والدته قد عادت من عملها ، و بعد أن تناولت طعام الغداء واستراحت وقامت ببعض الأعمال المنزلية ، سألها مكسيم عما قررته بشأن زيارتها لشقيقتها ، فلم تعطه جواباً ، وأفادته بأنها تحتاج إلى المزيد من الوقت لتدرس الموضوع و تجري بعض الحسابات الضرورية ، و أمور أخرى ومنها حالة والده الصحية ، طلبت منه أن
يجمع لها مزيداً من المعلومات عن ذلك المكان ، و معرفة المسافة التي تفصل بين دولتهم و مكان إقامة شقيقتها . قال لها : و الكلفة؟، فذكرته بأن ذلك ما تكلّفت به خالته ، فوعدها بتأمين المطلوب . أبو مكسيم مشغول الذهن ، و مرهق التفكير ، بسبب وضعه الصحيّ الصعب ، فمرض السرطان ليس بالهيّن ، و إن كان يوجد أمل بالشفاء . ٌكان دائما يتذكر نصائح ابنه بأن عليه أن يتفاءل بالشفاء ، وأن يمارس حياته العادية ، و أن عليه أن ينسى مرضه و ألمه ، الأمر الذي يساعده على الشفاء فكان يعمل بتلك النصائح على الرغم من الألم الذي يعيشه . كان يردد في نفسه مرات عديدة عبارة خطرت له و اقتنع بها : أنه لم يخطر بباله أن الغابة تستطيع الانتقام لنفسها ، وإن ما أصابه من مرض هو جزاء ما فعله بها . لقد تكونت لديه تلك القناعة بأن الإنسان لايصيبه أي مكروه إلا مما تجنيه يداه . في مكان عملها ، جلست أم مكسيم مع زميلاتها في العمل تحدثهن عن الدعوة التي وجهت لها من شقيقتها التي تسكن في تلك المدينة القريبة من منجم الفحم الضخم . أخذت إحداهن تحدثها عن تلك المدينة ذات البيئة الملوثة ، المليئة بالأمراض ، ومما أبلغتها به أنها مصنفة من أكثر المدن تلوثا في العالم ، وجاءت أخرى وحدثتها عن مفاعل تتشيرنوبل ، و التلوث الذي أحدثه في البيئة في أوكرانيا . اشمأزّت من هذه المعلومات و قررت التأكد منها من خلال سرد ما جاء فيها على مسامع ابنها مكسيم
عند عودتها إلى المنزل ، وفي الوقت نفسه تستطلع ما جمعه لها من معلومات عن تلك المدينة وفقاً لما وعدها . فلم تكد تدخل المنزل عائدة من العمل ، و حتى قبل أن تخلع نعليها من قدميها - كما كانت تفعل دائماً- فقد جلست على الكنبة الخشبية واضعة محفظتها في حضنها و كلتا يديها فوق محفظتها ، ثم نادت مكسيم . حضر على الفور ، فسألته :هل من جديد..؟؟!!! لقد تناهى إلى مسامعي معلومات أريد التأكد منك عن صحتها ، سألها : و ماذا سمعت ؟!، فبدأت تحدثه وتسرد له ماسمعت ، وأعادت عليه شريط الذاكرة الذي سجل كل الكلمات في ذهنها ، و حيث أنه كان قد اطّلع و بحث و حصل على المعلومات التي طلبتها منه والدته ، وأكد لها صحة ما سمعته . و ما كاد ينهي عبارته الأخيرة حتى سمع منها قرارها النهائي ، ومفاده بأنها ألغت الزيارة قائلة : يكفينا ما أصاب أبا مكسيم ، ثم أشفقت على حال شقيقتها ، و على إقامتها في تلك المدينة ، و تساءلت : كيف للإنسان أن يضحي بصحته وحياته لأجل لقمة عيشه ، و لماذا يسعى إلى إيجاد مايضره و يؤذيه ، و لماذا يدخل إلى باطن الأرض فيستخرج منها ما دفنه الله فيها بعيداً عن مخلوقاته؟!!. ألا يكفيه ما هو فوقها لتسيير شؤون المخلوقات حتى إذا استخرجوا ما هو في باطنها أفسدوا بذلك ما فوقها..؟؟!!، لله درّ الإنسان ، خلقه الله لينعم في بقائه ، فأخذ يسعى و يبحث عمّا يسبب شقاءه ، فقد استخرج الفحم و المعادن و البترول و اليورانيوم من باطن الأرض لأجل منفعته ، فكانت مصدر الضرر له ، وتابعت : أعتقد أنها نفايات لعوالم سبقتنا في الوجود . سبحان الله ، يستخرج الإنسان نفايات عوالم
سبقته ، و عندما يريد التخلص من نفاياته السامة يعيدها إلى باطن الأرض ، عجيب هذا الإنسان يفعل الشيء و نقيضه للموضوع نفسه ، ثم صمتت قليلا ثم تعجبت من أين وردت تلك الأفكار في ذهنها..؟؟!!!. لقد كان نقاش مكسيم مع والدته طويلاً ، فأخذ يفكر في حال هذا الكوكب بعدما قام باستعراض الأماكن الأكثر تلوثاً في العالم ، فارتعد من المعلومات التي تناهت إلى فكره و تساءل : كيف يعيش الإنسان في مثل هذه المواقع..؟؟!!!، ألا يمكن الاستغناء عن العيش فيها ، و في حال الحاجة لشيء منها ، ألا يمكن لآلة أن تفعل ذلك بدلاً من الإنسان؟!!. من خلال حالة تداعي الأفكار التي أصابته ، كانت كل فكرة تنقله من حالة إلى حالة أخرى ، وكونها شعلة لمواد ملتهبة ، خطر بباله موضوع دراسته الجامعية القادمة ، و الاختصاص الذي سيختاره و يخوض غماره . لقد اقترب موعد صدور النتائج ، بضعة أٌيام فقط كما أكد له زميله ، هو واثق من النتيجة ، و انتظاره ليس إلا من أجل الحصول على الوثيقة المطلوبة التي تؤهله لدخول الجامعة ، فكان في حيرة من أمره بين اختصاص الجغرافيا ، و الهندسة الزراعية ، و الطب ، و هندسة البيئة ، و الهندسة المدنية ، و يتساءل : ألا يوجد اختصاص يحتويهم جميعاً؟؟. ترك والدته تتناول طعام الغداء ، و خرج باتجاه مزرعته ليتفقد قطعانه في الحظائر ، و خاصة حظيرة الماعز التي أدخل عليها صنفاً جديداً ، إضافة إلى قطيعه . ولدى وصوله سأل العامل القائم على رعايتها عن ذلك الصنف ، فأخبره أن أموره على ما يرام . وبعد جولة اطّلع فيها على تلك الأصناف المتنوعة الألوان والأشكال ، و راقب فيها بعض حركاتها
وخاصة ما يتعلق منها بالمأكل و المشرب وبعض الحركات . لبعض الوقت انتقل إلى الحظائر الأخرى و خاصة الأبقار ، فراقب العاملين فيها و هم يقطفون الحليب منها ، ويجمعونه لأجل تسليمه للمعتمدين ، فوجد أن الأمر يتم بشكل حسن ، و خاصة لجهة النظافة ، والترتيب في الخطوات و التنسيق في التسليم ، واطمأن على العاملين بأنهم يحصلون على كامل مستحقاتهم و احتياجاتهم من الطعام ، و اللباس الخاص بالعمل . عاد إلى المنزل ، وما كاد يدخله حتى سمع صوت محرك عربة تقف أمامه ، عاد وألقى بنظره إلى تلك العربة ليتأكد من بداخلها ، إنه صديقه فكتور أتى لزيارته ، فعاد لاستقباله ، و قبل أن يستريحا على شرفة المنزل المطلة على الغابة كما هي العادة لدى مكسيم عند استقباله لضيوفه ، أخبره فكتور أن نتائج الاختبارات ستصدر غداً ، و قد سرّه ذلك و أسعده . كانت زيارة قصيرة ، خلد مكسيم بعد أن تركه صديقه للنوم ، وهو يحلم بالنتيجة وبموضوع والده ، حيث سيرافقه في يوم الغد إلى المشفى . وفعلاً فعندما كان يتابع علاج والده في المشفى وفقاً للموعد المحدد له ، بدأت تصله رسائل إلى جواله من أصدقائه و أقاربه ممن علموا بالنتيجة ، فيقدمون له التهنئة ، و منهم من يسأله عنها . علم والده بالنتيجة فاغرورقت عيناه بالدمع فرحاً ، فأخذه بكلتا يديه و ضمّه إلى صدره ، وقبّل وجنتيه مباركاً هذا العمل الرائع ، ومباركاً له التفوق ، و داعيا له بالتوفيق وهو يرجو الله أن يمد بعمره ليراه حاصلاً على الشهادة الجامعية بالاختصاص المناسب . فرح مكسيم بهذه النتيجة ، و أسعده
أكثر فرحة والده واتصال والدته التي باركت له هذا التفوق عبر الجوال ، ثم قال : سبحان الله حتى للفرح دموع ، و لأول مرة أشاهدها . بعدما غادرا المشفى باتجاه القرية ، و بعد أن وصلا البيت وجد والدته بانتظارهما بشوق ولهفة ، فجاءت التهنئة من والدته موازية و مقاربة لما فعله والده ، وكررت عباراتها التي سمعها منها عبر جواله ، وزادت عليها زغرودة سمعها كل من حولهم من الجوار ، وسمعتها أيضاً حتى القطعان في الحظائر ، والتي بدأت تصدر أصواتاً مختلفة ، و كأنها تشارك بهذه المناسبة ، حيث اجتمع الخوار ، و الثغاء ، والنباح ، فكانت معزوفة موسيقية من نوع خاص تناهت إلى مسامع كل من هم في المنزل . اعتقد مكسيم أنها تقدم له التهنئة بشكل جماعي ، فهذه هي لغتها و قد عبرت عما ترغب به ، فقال: يا إلهي ، حتى الحيوانات تسعد لسعادة الذي يعتني بها ، و تحزن لحزنه ، فكم من كلب مات بموت صاحبه ، و كم من قطة انتعشت بنعم صاحبها ، نعم إنها أرواح تسعد و تشقى ، تمرض و تشفى!!!. ياله الطبيب البيطري من إنسان رائع يخفف عنها ألامها ، فيداويها ويقدم العلاج لها عند مرضها ، دون أن تشكو أو تمتعض . أجل ما أجمل الطب البيطري ، لماذا لا أختص بهذا الاختصاص و خاصة لدي قطعان من الحيوانات ، وبعض أصناف الطيور وهذا الكلب الأمين الذي يرافقني إلى الحقل و الغابة ، فيحرسني دون أجر أو منّة ، و تلك القطة القابعة في المنزل ، التي لا تغادر ولا تدع زاحفة تدخله أو قارضة تؤذيه . آه يامكسيم كم أنت متردد ، وأخذ يتساءل : لماذا لا أترك الخيار لوالدي ؟، فأنا لم أعد قادراً على الاختيار ، فلكل اختصاص عمله المفيد ، سأعرض عليهما الفكرة عساهما
يحسمان أمري بدلاً من كل هذا التردد ، و خاصة أني أصبحت في مرحلة الاختيار بعد أن صدرت نتائج الاختبارات . عرض عليهما الموضوع ، وبدأ البحث و النقاش وارتفع الجدال ، كلا منهما يريد له اختصاصاً ، لم يتفقا ، و بدلاً من الوصول إلى مقترح يكون أساس الحل ، حلّ محلّه نقاش كاد أن يحوّل المسألة إلى مشكلة بين والديه ، فكان عدم اتفاقهما اختلافاً إشكالياً ، و لولا تدخل مكسيم لإعادة الأمور إلى نصابها و حالتها الطبيعية لكانت تطورت الأمور نحو الأسوأ . اختلى بنفسه و أخذ يبحث عن مجال كل اختصاص تم طرحه من قبل والديه على حده ، و بدأ يقارن بينهم ، فهو يحب الاختصاص الشامل الذي يفيد العدد الأكبر من الناس ، فكان يحصل على المعلومات من مراجع عدة ، وكان يسأل من سبقوه إلى الجامعة عن الاختصاصات التي سيختارونها ، و بعد تمحيص و دراسة بدراية و عقلانية ، رجحت كفة الهندسة البيئية ، حيث وجدها تجمع اختصاصات عدة ، وهي تتعلق بعناصر الحياة ، الهواء و الماء و التراب ، و غايتها صحة الإنسان وسلامة الطبيعة ، و هذا مجال عمل اختصاص الطب . حان وقت التسجيل في الجامعة ، حزم أمره في اختيار الاختصاص الذي سيدرسه ، فحمل أوراقه الثبوتية المطلوبة و على رأسها الشهادة ، و ذهب لتقديمها إلى الموظف الموكل بذلك ، وأثناء حضوره إلى المبنى المتواجد فيه مكان التسجيل التقى بزملائه ، و جرت نقاشات فيما بينهم ، وعندما كان يبلغهم بالاختصاص الذي سيختاره كان يرى في وجوههم علامات الاستغراب ، مما جعل مكسيم يتردد و يقع في حيرة من أمره ، الأمر الذي جعله يعود أدراجه من دون أن يقوم بالتسجيل في اليوم الأول .
وجد أن معظم زملائه يقومون باختيار الطب و الهندسة المدنية . لقد عاد أدراجه من حيث أتى مانحاً نفسه فرصة أخرى كي لايندم بعد فوات الأوان ، فكما يقولون : (الندم بعد الفوات أصعب من الممات) ، خاصة وأنه لم يصادف أحداً من زملائه المتفوقين ممن قاموا بالتسجيل ، أن اختار هذا الاختصاص . عندما عاد إلى المنزل سأله والده عن الاختصاص الذي اختاره ، فأخبره بما جرى معه ، فعاد يتمنى عليه أن يدرس الطب ، أما والدته فقد تمنت عليه أن يختار الهندسة المدنية ، ثم أخبرته بأن شقيقتها عاودت الاتصال بها ، و تمنت عليها الحضور لزيارتها و أنها بشوق لها . سألها : وماذا قلت لها ؟ ردت : أبلغتها موافقتي ، وعدتها بزيارتي على أن أمكث هناك لمدة أسبوع ، أطّلع على مكان سكنها ، و أرى كيف يعمل زوجها ، ولن يصيبني إلا ما كتبه الله لي ، هاهم يقيمون هناك بشكل دائم ، وإن إقامتي بضعة أيام هناك لن تؤثر على صحتي . خطر له خاطر في أن يرافقها في زيارتها عندما تذهب إلى هناك ، و لكنه تساءل من سيبقى إلى جوار والده و هو في هذه الحالة فتراجع عن فكرته . سألته والدته إن كان يعلم كم ستستغرق هذه الرحلة من مدة زمنية في الطائرة ، فأجابها : أكثر من خمس ساعات . أثناء حديثه معها كان والده يجلس مستمعاً ، فذكّره مكسيم بتناول الدواء ثم أرشده إلى طريقة تناول أحد الأدوية التي يتعاطاها ، و حذره من عدم التقيد بتلك الإرشادات ومدى تأثير مخالفتها على صحته . لقد علم ذلك من خلال المعلومات المدونة على تلك الورقة المرافقة للدواء ، فما كان من والده إلا أن شكره
قائلا: أحسنت أيها الطبيب . أشعلت هذه الكلمة ذاكرته فعاود التفكير في اختيار الاختصاص الذي سيدرسه ، و شجعته تلك العبارة ، ورغبة والده لكي يختار اختصاص الطب . نام ليلته على هذه النيّة ، بعد هذا التردد الذي أصابه ، ولم يكن يألفه أو يعرفه في حياته ، فلم يفكر يوما بأنه سيقع في هذه الحيرة من أمره . في أثناء نومه في هذه الليلة شاهد حلماً مرعباً ، لقد رأى والدته في المكان الذي ستزور شقيقتها به ، وهي تغرق في وحول سوداء بعد مطر أسود ، وكأنه هباب من الفحم أو شحار من المدافئ التي تعمل على المازوت ، أرعبه هذا الحلم و لم يعلم أنه ليس حقيقة إلا بعد أن استيقظ من نومه وذهب إلى غرفة والدته و تأكد أنها موجودة في غرفتها ، حينها أدرك أن ما رآه كان حلماً . أخذ يتساءل : هل هذا نذير شؤم لوالدته في زيارتها إلى هناك ، أم من خوفي عليها رأيت هذا الحلم؟!. بعد أن أشرقت الشمس تعلن ولادة يوم جديد ، استيقظ من نومه ، غسل وجهه و لبس ثيابه ، ثم حمل وثائقه و ذهب قاصداً الجامعة . وصل إلى المكان المخصص للتسجيل و هو يفكر في أنه سيختار الطب ، وكلما كان يتقدم خطوات أكثر يتردد أكثر ، إلى أن وقف بعض الوقت ليحسم أمره ويحدد خياره الأخير بعد هذا التردد بين خيارين لا ثالث لهما ، الطب أو هندسة البيئة ، و قال: أنا مكسيم هذه شيمتي وهذه عادتي ، ولن أضيع هدفي في هذه الحياة ، فأنا أريد أن أقدّم عملاً يفيد العدد الأكبر من الناس ، و سأكرّس حياتي كلها لذلك ، أعلم أن ذلك ليس بالسهل ، و لكن عليّ العمل ، و لن أتوانى في ذلك ، فهندسة البيئة اختصاص شامل و هام ، و مجال عمله يناسبني و يسهم في الاطّلاع و التنقل و البحث
التجربة و الاختيار و التنوع . فالبيئة تتعلق بالهواء ، والتراب ، والماء ، والإنسان ، و الحيوان ، و الشجر ، و باطن الأرض ، و الغلاف الجوي ، و المصانع ، والآلات ، و الصناعات ، و السياحة ، والحياة ، وإني أرى شيئاً بداخلي يدفعني إلى هذا العمل و لكني لا أعلم ما هو . أيكون قدري ليضاف إلى ألقابي لقب آخر ، فأكون مكسيم المخترع ، أو مكسيم المنقذ ؟ ، فالعالم بحاجة إلى منقذ . ثم تابع خطواته النهائية باتجاه الموظف المختص ، و اختار اختصاص هندسة البيئة ، ليكون مجال دراسته الجامعية . سجل و عاد إلى القرية بكل ثبات بعد أن تخلص من الحالة التي أصابته ، فالتردد يكون قاتلاً حيناً و فتاكاً أحياناً أخرى . عندما علم والداه بذلك لم يكونا على ما يرام ، الأمر الذي ساهم في أن تستعجل والدته بزيارة شقيقتها ، مغادرة بعد أن غادرها حلمها في أن ترى مكسيم مهندساً مدنياً . أحست أن أحلامها انهارت فهي لا تعلم عن الاختصاص الذي اختاره شيئاً ، ولم تسمع به من قبل ، و لم يكن والده بأحسن حال منها ، لم يعترض و لكنه لم يكن راضياً ، فكان يرغب في أن يرى مكسيم الطبيب المنقذ . أحسّ أنه أصبح وحيداً يقاوم مرضه بعدما كان يأمل بأن يكون مكسيم إلى جانبه ، و هو مكسيم الطبيب . شعر مكسيم بشعور والديه ، و علم بأن استعجال والدته في السفر هو من أثر ذلك ، ولكنه لم يتأثر كثيراً ، فهو يعي هدفه ، و سيجعلهما قريباً في حالة مغايرة و خاصة والدته . اصطحب كلبه و ذهب باتجاه المزرعة ليتفقد موجوداتها ، فكان كلبه يسبقه أحياناً ، ويقف بجانبه أحياناً أخرى ، وأحياناً يتأخر عنه قليلاً ، وفي كل الأحوال فهو لا يهدأ عن التلويح بذيله ، و كأنه يحدث مكسيم من خلاله ، و خاصة عندما يرافق ذلك شيء من النباح الخفيف .
فجأة انطلق مسرعاً و كأنه في سباق باتجاه واحد حتى غاب عن ناظريه ، استغرب مكسيم هذه الحركة ، فلم يلاحظ ما يستدعيها ، و وقف ينظر و يراقب ، فكانت عيناه في الاتجاه الذي ذهب فيه الكلب حتى غاب عن ناظريه . لقد ذهب بعيداً ، تركه و دخل الحظائر ، كان يتفقدها واحدة واحدة إلى أن وصل إلى خم الدجاج ، لم يجد الديك المميز الذي كان أول ما يلقي نظرته في الخم تقع عيناه عليه ، و لاحظ أن الدجاج في حالة من الذعر ، عندها تأكد له أن ثعلباً ماكراً قد هاجمهم ، و أن الكلب قد لمحه فلحق به . دقائق قليلة وعاد الكلب و الديك حي معه بعدما فقد بعضاً من ريشه ، وخاصة تلك التي كانت تزين ذيله و تجعله في حالة من الغرور . لقد خلصه الكلب من أنياب الثعلب ، فمن حالته يتبيّن وكأنه عائد من الخطف ، ولأول مرة يقوم الكلب شريخان بهذا العمل ، فكان يقف إلى جانب مكسيم بكل قوة وعزيمة ، و كان مكسيم يثمّن جهوده و يشكره بأن يضع يده فوق رأسه ليمسحها بهدوء كما يفعل الأب لابنه الصغير . بدأت أحوال الطقس تتغير ، و أصبح الفصل الجديد على الأبواب و أخذ الناس يستعدون له ، بينما والدته سافرت ، و بدأت رحلتها إلى ذلك المكان المخيف ، فكانت و هي في الطائرة تشعر بالندم لمجيئها ، وذلك لما تعلمه عن ذلك المكان الملوث ، وخشية أن يصيبها مكروه ما و لكن لم يعد باليد حيلة ، فماهي إلا ساعات معدودة و تطأ قدماها أرض الأحبة . حاول مكسيم الاتصال بها مرات عدة فلم يفلح ، إنها خارج التغطية ؛ إذاً مازالت في الطائرة و لم تصل بعد .
والد مكسيم في زيارة لشقيق زوجته الذي تربطه به صداقة متينة ، فهو من أقرانه . بينما كان مكسيم يتحدث مع البنّاء من أجل تحصين خم الدجاج ، كيلا يخترقه الثعلب الماكر مرة أخرى ، رن جواله ، نظر إليه فإذ بوالدته ، أمسكه بحركة خفيفة كانت سرعتها متناسبة مع شوقه للحديث مع والدته ، فتحدث معها واطمأن على وصولها بالسلامة ، وختمت المكالمة بعبارات توصيه بوالده خيراً . بعدها تابع حديثه مع البناء وأشار إليه بما يريد فعله ، على أن ينهي الأعمال التي كلفه بها قبل بدء العام الدراسي ، والذي لم يعد لقدومه سوى أسبوع واحد . وصلت والدته أرض المطار ، فوجدت شقيقتها بانتظارها ، ولم تكد تصدق عينيها عندما رأتها ، لقد انطوت تلك السنين التي قطعت وصالهما البصري ، و ها هي شقيقتها أمامها وجهاً لوجه ، يالها من لحظات نادرة ومؤثرة يستعيد الإنسان من خلالها زمناً ضائعاً . احتضنتا بعضهما و لم تستطع القبلات المتبادلة أن تعبر عن الشوق ، فأسهم الاحتضان في ذلك ، فقد كانت تظن أنها سترى شقيقتها في حال من الهزال ، لما علمته عن مدى التلوث الذي يصيب المنطقة التي تقيم فيها ، و لكنها وجدتها بصحة جيدة ، و بأحسن حال ، فأخذت تتذكر كلام مكسيم ، وظنت أنه قال لها ذلك لكي تبقى بجانبه ، فقالت: سامحك الله يابني ، لم أكن أعلم مدى تعلّقك بي إلى هذه الدرجة . اصطحبتها شقيقتها بكل سرور إلى مكان إقامتها ، حيث جرى لها استقبال حافل . في أثناء سفرها تدهورت حالة أبي مكسيم الصحيّة ، فأسعفه مكسيم إلى المشفى ، وهناك أجريت له الإسعافات المطلوبة ، و التحاليل اللازمة ،
وتبين أن ما أصابه كان بسبب الزعل . علم مكسيم أن شعوره بلبقاء وحيداً في الفترة القادمة خلق لديه هذه الحالة ، فالتحاق مكسيم بالجامعة سيجعله وحيداً . بعد أن أيقن مكسيم أن ما أصابه ليس بسبب مرضه ، و إنما خشية من وحدته ، استعان بخاله كي يبقى إلى جانبه أثناء غيابه ، على أن يحضر معه تلك الناي التي يجيد العزف عليها بشكل مميز فيسمع والده ما يمكن أن يعيد إليه اتزانه و توازنه ، فصوت الناي الذي يحبه ووجود صديقه إلى جانبه يتركان أثراً طيباً في حالته ، أضف إلى ذلك الزيارات التي من الممكن أن يقوم بها إلى المزرعة و الحظائر . غادر مكسيم القرية تاركاً والده برفقة خاله رفيق دربة و برعاية الله ، و سافر إلى المدينة ليتابع دراسته الجامعية بعد أن وجد سكناً قريباً منها . لقد بدأت رحلته العلمية الاختصاصية ، حيث كانت المحاضرة الأولى التي حضرها تعريفاً واسعاً وشاملاً عن اختصاص هندسة البيئة ، فقد قدّم لهم الدكتور جان ما لم يكن بالحسبان . شعر مكسيم بالسعادة مما سمعه ، وأيقن أن اختياره جاء سليماً ، و أكثر ما أعجبه مما قاله الدكتور جان عن علماء البيئة أنه وصفهم بحراس الكون البشري ، و لا يمكن إنقاذ العالم من الهاوية التي يسير إليها بسبب التلوث الذي أصابه إلا على أيديهم . هكذا بدأت حياته الجامعية ، فلم يكد يمضي الأسبوع الأول والثاني إلا و وجد نفسه منسجماً مع ما اختار لدراسته من اختصاص ، فكان مع كل محاضرة أو بحث جديد يزداد حبه و تعلقه به ، و بدا تميزه عن زملائه واضحاً ، فبالنسبة له لم تكن المحاضرات وسيلته الوحيدة لمعرفة خيوط هذا العلم ، بل أخذ يبحث عن المراجع العلمية المتنوعة التي تتعلق به ، و يستطلع المواقع الإلكترونية و الدوريات
يدرك أو يقدّر ما هو غير مشاهد من الآثار الضارة التي تحصل من جراء استخراج هذه المادة في تلك الأماكن ، و خاصة أنها جسيمات صغيرة ومتناهية الصغر تدخل الجسم مع الهواء من دون أن يشعر الإنسان بها . في حياة الناس هناك أمر آخر يحصل بفعل العادة ؛ فعندما يتعود المرء على أمر ما لا يعود يفكر في تأثيراته ، و خاصة الضارة منها ، ويصبح لديه أمراً طبيعياً ومألوفاً ، كما يفعل بعض عمال النظافة في بعض البلدان ، فعندما يعملون في جمع القمامة بالطرق التقليدية ، وبعد الأسبوع الأول لم يعد منظرها المقزز أو رائحتها الكريهة يعني لهم شيئاً ، كذلك من يعمل في مجال الحيوانات يألف رائحة روثها وحالتها ، بينما لايستطيع غيره الاقتراب منها بسبب ذلك . تحسن وضع أبي مكسيم الصحي و خاصة بعد أن عادت زوجته ، وأصبحت إلى جانبه ، و التي بدورها شكرت شقيقها غاندي على ما قام به في أثناء غيابها ، و قد أحزنها وضع أبي مكسيم الصحي بعدما علمت حقيقة مرضه . بدأت نفقات مكسيم تكبر و تتوسع ، واهتمامه بدراسته جعله ينكفئ عن متابعة شؤونه الزراعية ، ولأن والده لم يعد قادراً على متابعتها كما يجب ، فقد قرر التخلي عن بعض منها ، و أبقى على العدد الذي يمكن للعمال الذين يعملون لديه في المزرعة متابعة شؤونها . فأخذ المبلغ الذي حصل عليه من بيع بعض الطيور و الماشية ، واشترى فيه أسهماً لشركة رأى فيها ضمانة حقيقية في تحقيق بعض الإيرادات لتساعده في الدراسة ، و تؤمن احتياجاته ، و تساعد والده في تأمين متطلبات العلاج .
مع مضى العام الدراسي قدماً ، كان مكسيم في سباق مع أيامه إلى الأمام دائماً ، لقد كان يفكر في كل كلمة يسمعها أو عبارة يقرأها ، سواء في أثناء متابعة المحاضرات أو عندما يقوم بمراجعتها وحيداً في غرفته الخاصة ، أو في قاعة المطالعة . كان يشارك في نقاشات محاضريه من البروفيسورات ، وأيضاً كانت له خلوات يفكر خلالها بهذا الوجود ، فكان يرى أن محوره و أساسه الإنسان ؛ فالإنسان هو غاية هذا الوجود ، و بعد بحث و دراسة بدراية تبين له أن معرفة غاية وجود هذا الكائن على وجه الأرض هو سر علم البيئة ، وبحياة هذا الكائن العجيب يتجلّى سر علم البيئة . فالإنسان على ما يبدو خلق و وجد ليكون في هذه الحياة سعيداً مرفّهاً ، و بالتالي كل ما يساعده للوصول إلى هذا فهو صحيح ، و العكس بالعكس أي الخطأ بعينه ، و من له شأن بذلك اثنان فقط لا ثالث لهما ، الخالق سبحانه و تعالى و الإنسان نفسه . فالخالق لن يكون منه سوى ما هو خير ، و يبقى الإنسان، وهذا مما كان يتعجب منه مكسيم ، كيف يعمل الإنسان ليجلب الضرر لنفسه بدل أن يعمل ليبعده عنه!!، أمر يناقض المنطق ، عجيب هذا المخلوق حتى الهواء الذي يتنفسه يعمل على ما يفسده ، و كذلك الماء الذي يشربه ، حتى المطر أو الثلج أصبح له ألوان . من يصدق أن في سيبيريا ، أم الثلوج ، يتساقط الثلج أسود اللون ، و كل ذلك بفعل الكائن البشري الذي أوجده الله ليسعد ، فعمل على ما يشقيه. المطر أصبح حامضياً ، الهواء أشبعه بالكربون ، والأوزون أصبح مثقوباً ، المياه نفطية ،
وماذا بعد؟، ففي كل ما سعى إليه الإنسان ليجعله مفيداً له أو بالتالي يمكن أن يسعده ، حمل معه ما يجلب الضرر ، لا بل و الدمار أحياناً . لقد اعتقد مكسيم أن تلك المواد التي كان الإنسان يستخرجها من باطن الأرض في عصرنا الحاضر ما هي إلا نفايات لعوالم أخرى دفنتها هنا ، نفايات نستخرجها لنستخرج ما نراه مناسباً منها ثم نعود لندفن ما تبقى منها ، فكان يسجل كل تلك الأفكار و الملاحظات بدقة ، لعله يستطيع فيما بعد أن يعمل على ما يوقف هذا الضرر ، أو بعضاً من تلك المشاكل ، سواء من التلوث أو الاحتباس الحراري ، و كان يسأل كيف له ذلك؟، فهناك مئات الاختصاصات و عشرات العلماء و لم يصلوا إلى حل ، فكيف بي أنا ، هل أكون أقدر منهم على فعل ذلك؟؟!. لاحظ أستاذ مادة المناخ تميز هذا الطالب ، حيث وجد أن الأسئلة التي يطرحها تسبق زمنه الدراسي ، و فكره الذي يناقش فيه يتجاوز معلوماته المنهجيّة فلم يكن يريحه ذلك ، فكان يقول في نفسه : حصلت على الدكتوراه و لم يخطر ببالي هذا الأمر ، من أٌين له هذه الأفكار ، وتلك المعلومات ، حتى أن ما يتحدث به أو يطرحه كله دقيق و موثق . بدأت الغيرة تنهش في كيانه ، ولم يلحظ مكسيم أي شيء تجاهه من هذا البروفيسور حتى هذه اللحظة لكونها بقيت في داخله ، ولكونه لم يبدِ أي تصرف يدل على ما يفكر به ، لأن البروفيسور كان يكبح مشاعره ويبقيها في داخله ، ولم يكن قادراً على مخالفة واجبه الأخلاقي و العلمي و الوظيفي في تجاهل و تجاوز ما يبحثون عنه أو يقدمونه لهؤلاء الطلاب .
أما مكسيم ، فمن كان يحضر لزيارته في شقته المستأجرة في المدينة أو في منزله في القرية ، يظن أنه في زيارة لأحد المختبرات أو إحدى المكتبات ، لكثرة المواد المتواجدة و المراجع التي حصل عليها ، فقد شغلت الأدوات و المواد التي أحضرها حيّزاً كبيراً من مساحة المنزل ، حتى الحظائر والغابة و الحقول ، كلها أصبحت تابعة لمختبراته ، أضف إلى ذلك أنه أسهم في نشر ثقافة الاختصاص . فزواره و أهل بيته صار لديهم معلومات وفيرة عن هذا العلم ، و خاصة والديه ، فلم يكن يخطر على بالهما ما أعلمهما به عن موضوع التلوث ، حتى أن والدته أصابها الخوف و القشعريرة مما سمعته ، و قالت في نفسها : كل هذا يحصل دون أن نشعر به ، إذاً كم من كميات غبار الفحم دخلت رأتاي أثناء زيارتي لشقيقتي ، و كم يلزمني من الوقت للتخلص منها ؟!، لم أكن أشعر بذلك . فأكثرت بعدها من التمارين الرياضية كونها تعلم أنها مفيدة للصحة ، و في زيارتها للغابة بغية الحصول على الهواء النقي المشبع بالأوكسجين والتخلص من هباب الفحم الذي سكن رئتيها و بدأت بتناول بعض الأطعمة الخاصة المقاومة للتسمم ، و المقوية للجسم ، من مثل البيض والحليب ، و الموز و بعض البقوليات ، و أشفقت على شقيقتها و صهرها ، و خافت عليهما ، و خاصة صهرها الذي يعمل تحت سطح الأرض بأعماق مرعبة ، و يسير في أنفاق مظلمة ، مليئة بهذه المادة وكأنه يغوص فيها ، فهو كما أخبرها في أثناء زيارتها لهم يسير وفق مقاطع أفقية و بمسافات طويلة تحت أعماق الأرض مع رفاقه
لاستخراج الكميات الوفيرة من تلك المادة ، فقالت : يالهم من جبابرة هؤلاء الذين يخاطرون بحياتهم لأجل لقمة عيشهم ، ولأجل تقديم تلك المواد للذين يستخدمونها في أعمالهم لخدمة الإنسان نفسه ، فهم يضحّون بحياتهم لأجل حياة الآخرين و سعادتهم ، فيخلقون السعادة للآخرين بشقائهم ، فيالهم من فئة كادحة ، فعلاً يستحقون أن يكون لهم عيداً يحتفلون به و لو مرة في السنة . كان مكسيم يتساءل كم يوجد من المناجم في العالم ( الفوسفات ، الكروم ، الحديد ، اليورانيوم ، و الفحم الحجري و غيرها وغيرها.....) ، والتي تسمم الأرض بملوثات هائلة ، مما يزيد الحالة سوءاً ، وأيضاً بعض عوامل الطبيعة ، ففي كل مرة يثور بركان هنا و هناك ، يقذف بغباره و غازاته الضارة في الأجواء ، فيفسد على الإنسان ما يسعى إليه من إصلاح لحاله ، وتساءل : هل هذه البراكين تأتي انتقاماً من أهل الأرض لما يفعلونه بداخلها ، أم هو غضب الإله من عباده الذين استوطنهم في الأرض ليستعمرونها ، فوجدهم يعملون على تدميرها؟؟، بالرغم من أنه - سبحانه - أرسل لهم الرسل و الأنبياء ليرشدهم ، ويدخلهم ، و يعلمهم ، فكان منهم من خاف و سمع والتزم ، و منهم من خالف و انحرف ، و ما أكثرهم . عاد مكسيم إلى بعض الكتب السماوية ليستطلع إن كان قد ورد فيها ما يفيد علمه و اختصاصه ، فرأى فيها كثيراً من الاهتمام بهذا الموضوع ، وأنها أعطته أهمية كبيرة من حيث الحفاظ على الطبيعة والحيوانات والإنسان ، فنهت عن التصرفات الضارة ، وأعطت كثيراً من
الإرشادات ، و أمرت بكثير من الأفعال المفيدة ، كالحفاظ على المياه الجارية ، و زرع الأشجار، و دفن الموتى ، ولم يكن يخطر بباله ذلك ، فقد ظن أن الإنسان المعاصر فقط هو الذي اهتم بالبيئة . كل هذه المعلومات جمعها و حصل عليها بوساطة النت ( الشبكة العالمية للاتصالات )، فكان يقول : ياله من أمر رائع ، أي عقل بشري وجد هذا!!. أشعر أن هذه الشبكة مثل الفانوس السحري الذي يعطي الإنسان مايريد بأسرع وقت ، كنت أعتقد أن ذلك خيال فتبيّن بأنه حقيقة ، حتى المال يمكن للإنسان الحصول عليه بواسطتها . وتساءل هل يستطيع هذا الفانوس ( النت ) أن يعطينا حلاً لتلك المشكلة البيئية ، و الضرورية التي على ما يبدو أن المسؤولين و المختصين لن يستطيعوا ذلك ، فكم من الاجتماعات و الأبحاث و المعاهدات ، و تدخل الأمم المتحدة و المنظمات و الجمعيات و المعاهد الخاصة ، وعلى الرغم من ذلك تزداد الأمور سوءاً . بعد كل هذا التفكير وهذه التساؤلات التي خطرت بباله عندما كان مختلياً بنفسه ، استفاق من شروده تعباً ، لقد أخذ منه هذا التفكير جهداً و طاقة ، فذهب إلى المطبخ و أحضر كوباً من الكابتشينو ، المشروب المفضل لديه . كانت درجة حرارة الماء بلغت درجة الغليان ، وقد حصل عليها من خلال استخدامه نظام التسخين بوساطة الطاقة الشمسية ، بدلاً من الغاز و الكهرباء و الحطب ، فوفر نقوده و خفف من انبعاث الغاز الضار في الهواء . حمل الكوب و استوى على الأريكة وراء الطاولة و أخذ يرتشف منه قليلاً قليلاً ، و هو يفكر بعملية تسخين الماء بواسطة السخان الشمسي ، و مدى فائدته المادية والبيئية ، و تساءل لو فعل كل فرد على وجه الأرض ذلك ، كم ستكون النتيجة عظيمة؟!.
أمسك بقلمه و بدأ يكتب و يقارن بين الطاقات المتواجدة في باطن الأرض ، و تلك المتواجدة على سطح الأرض و فوقها ، فوجد أن ما فوقها و عليها أكثر و أفضل و أكثر فائدة و أنظف وأقل كلفة وضرر عمّا هو في باطنها ، و فوق ذلك أنها دائمة ومستمرة لاتنضب ؛ فالهواء و الماء و أشعة الشمس والأمواج و سرعة دوران الأرض و الضغط الجوي و تفاضل المواد في خواصها ، يمكن للإنسان أن يجد فيها ما يحتاجه بكل يسر و أمان ، و بدون أي ضرر بدل أن يغوص في باطنها . ألقى قلمه فوق قرطاسه على طاولته ، و عاد إلى الوراء رافعاً رأسه إلى الأعلى ثم التفت يميناً و يساراً ، ثم عاد و أمسك قلمه مرة أخرى وقام بشطب ماكتبه ، قائلاً : من يقرأ ذلك سيعتقد أنني جننت . تعالت نغمة جواله ، عرف من خلالها أن المتصل والدته . ألو : نعم هل مازلت ساهراً ؟ نعم ، إني أحضّر للامتحان و كيف التحضير؟ على ما يرام كيف حال والدي، هل يتناول الدواء بموعده؟
نعم وهو بحالة جيدة . سألته إن كان يريد شيئاً و خاصة بعض المال ، فأخبرها أن لديه ما يكفيه و أنه لايريد شيئاً ، وانتهت المكالمة مع عبارة تصبحين على خير . أغلقت أم مكسيم جوالها و كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلاً . ذهبت لتتابع السهر مع أبي مكسيم الذي ما زال مستيقظاً ، فحدثته عما دار بينها وبين مكسيم ، و أخبرته أن لديها مبلغاً من المال ادخرته خلال حياتها ، وهي ترغب باستثماره في شيء مفيد يعود عليها بشيء من الفائدة ، و أن أكثر ما يخطر ببالها موضوع الزراعة ، و خاصة زراعة الأشجار كونها تفيد البيئة ، فقال لها : انتظري لحين عودة مكسيم لعله يجد لك ما يناسب فهو الأقدر على ذلك ، راقتها الفكرة فوافقته الرأي . مع ختام حديثهما كان الفراش هو الملاذ ، بعد أن بدت على كليهما علامات النوم ، فكان أبو مكسيم يتثاءب حتى بدا فاهه كمغارة في جرف صخري ، و لم تكن أم مكسيم بأحسن حال منه ، فكان التحام جفني عينيها ، وهي جالسة تحدثه ، أكثر مما هما متباعدان . قصد أبو مكسيم غرفة النوم ، فاستلقى على السرير و وجهه إلى الحائط الملاصق للسرير ، فما كان من أم مكسيم إلا أن فعلت مثله ثم ألقت بالغطاء عليهما ، بعد أن أطفأت المصباح المتوهج و استبدلته بالضوء الخافت المنبعث من اللمبدير الخاص بهذه الأوقات ، ولم تسمع شخيره ، لقد رقدت قبله . أثناء الليل استيقظ أبو مكسيم لقضاء حاجة ، و بعد عودته من الحمام سمع همهمات من زوجته النائمة ، فأمعن النظر إليها حانياً رأسه حتى كاد يلامس رأسها ، فتبيّن له أنها تريد الكلام علماً أنها نائمة ، قليلاً ثم انقطعت
الحركة و عادت تغط في نوم عميق ، لم يشأ أن يكلمها لاعتقاده بأنها في حلم ، ثم تابع نومه . في الصباح ، و عندما كانا يتناولان طعام الإفطار ، أخبرها أبو مكسيم بما لاحظه منها ليلاً ، فأخبرته بأنها فعلاً كانت في حلم ، و قالت : ياإلهي ما أجمله ، فسألها : و ماذا رأيتي هاتي حدثيني؟! . لقد رأيت أشعة الشمس الساطعة تغمر مكسيم ، ورأيت نوراً يشع من وجهه يمتد بعيداً بعيداً ، حاولت الإمساك به و لم أستطع ، فكان ينظر إليّ ويبتسم من ذلك . أجابها : ياله من حلم جميل. سألته : و ما تفسير ذلك ؟ أجابها : لا أعلم و ليس لدي الخبرة ، و لكن وجود الشمس و النور شيء جميل حتى و لو كان في الحلم ، و ما عليك إلا سؤال رجل الدين ابراهام ، فكل الناس تقصده لأجل ذلك ، وقد أثبت مقدرته في هذه الأمور ، ولو كان من دين آخر غير الدين الذي ندين به ، أو انتظري قدوم مكسيم ، رددت : حسناً، حسناً . بعد تناول طعام الإفطار انصرف كل منهما إلى مبتغاه ، و أخذت أم مكسيم تفكر بالحلم الذي رأته في نومها ، وهي تريد معرفة تأويله ، وبدأت تتساءل : هل هذا بشارة خير أم لا ؟. عندما انتهت عطلة الأسبوع التحقت بعملها ، وهناك روت لزميلاتها ذلك الحلم الذي شاهدته ، وسمعت منهن تفسيرات و تأويلات و اجتهادات معظمها
إيجابي . و عندما عادت إلى المنزل تبين من حالها أنها لن تستطيع انتظار عودة مكسيم ، فقد علمت بأنه لن يعود قبل انتهاء الاختبارات النهائية لسنته الدراسية الأولى ، والتي ستمتد لأكثر من عشرين يوماً . عندما كان العامل الموكل برعاية حظيرة الأبقار المتبقية في مزرعة مكسيم يقوم بجولة يتفقد من خلالها الحظائر ، لاحظ بعض الوهن على إحداها ، فلم يخبر أحداً لاعتقاده أن ذلك أمر عارض و يزول ، خاصة و أنها على وشك الولادة ، و لكنه فوجئ بنفوقها في صباح اليوم التالي . لقد كان مربَكاً وحزيناً وهو يخبر أبا مكسيم بذلك ، و كان يتوقع منه ردة فعل غير التي رآها ، فما كان من أبي مكسيم إلا أن طلب منه تدبر الأمر و التصرف للتخلص منها . عاد ذلك العامل إلى الحظيرة لا يعلم ما سيفعل ، فوزنها ثقيل ، وكيف له نقلها، وأين سيضعها؟!. وقع في حيرة من أمره ، إلا أنه فكّر أخيراً بالاستعانة بالثعلب الماكر كما يلقّبونه ، السيد/ هرشو / , فهو أشهر من علم على سارية . كانت أسارير وجه هرشو تعبر عن سعادة واضحة و هو يتلقى طلب المساعدة من ذلك العامل للتخلص من تلك البقرة النافقة ، فقد جاءت فرصته التي لا يمكن له أن يدعها تفلت من بين يديه ، وأخذ يشرح لذلك العامل عن طريقته للتخلص منها ، فقد أخبره أن لدى صديقه حديقة حيوانات ، و فيها بعض الحيوانات المفترسة من مثل الأسود و النمور ، و الذئاب والثعالب ، و أنه سيقوم بتقطيعها بوساطة منشار يعمل على محرك البنزين إلى قطع مناسبة ، ويضع القطع ضمن أكياس ، ويقدمها إلى صديقه ليجعلها طعاماً لحيواناته . سعد العامل بذلك ، و انزاح عن كاهله هذا الحمل الثقيل ، و خاصة أنه احتار أين سيضعها ، فهي ستكون مصدراً للروائح
الكريهة ، و مرتعاً للديدان والحشرات ، إضافة لكونها ستصبح منظرا مقرفاً ومقززاً لمن سيراها ريثما تتحلل . أحضر هرشو منشاره و سيارته البيك آب مع مجموعة أكياس من النايلون ذات الحجم المتوسط و بدأ عمله ، فكان يضع القطع في الأكياس ثم ينقلها إلى العربة التي كانت عجلاتها تشير إلى ثقل الحمل . حملها و غادر لكنه لم يقصد صديقه الذي روى عنه ، ولم يفعل كما أخبر العامل ، و إنما قصد أحد القصابين في المدينة ، باعها و قبض ثمنها ، متمنياً لمن سيتناول طعامه منها طيب المأكل . كان العامل يروي لأبي مكسيم عما فعله بشيء من الخوف ، ولكنه فوجئ ، فلم يكن لدى أبي مكسيم أي ردة فعل ، غير أنه لم يكن مطمئناً على تصرف هرشو و صدقه ، فهو رجل مشهور بالفساد ، ولا يؤمن جانبه ، الأمر الذي جعله يفكر بالموضع كثيراً ، ثم قال : سأعرضه على مكسيم عند عودته من المدينة ، فقد يجد طريقة آمنة للتخلص من الحيوانات الأليفة عند نفوقها ، فيتم التأكد من إتلافها و التصرف بها بشكل آمن يحول دون أي سوء في استخدامها ، و للحؤول دون أن تصبح وجبات في المطاعم ، أو أن تلقى في العراء فتسبب الأوبئة و الروائح الكريهة، و المناظر القبيحة . عندما عادت أم مكسيم من عملها في هذا اليوم ، و بعدما وصلت القرية ، لم تقصد بيتها كما تفعل عادة ، و إنما في هذه المرة كانت وجهتها منزل إبراهام ، رجل الدين الذي يعيش وحيداً وبعيداً ، والذي يتجاوز عمره السبعين عاماً ، قصدته تريد تفسيراً لرؤياها عملاً بتوجيهات أبي مكسيم .
و بعد وصولها منزل ابراهام لم تجد باباً لتطرقه استئذاناً بالدخول ، و لكن نباح الكلب الذي وقف أمام باب غرفته ، جعل ابراهام يستعيد نشاطه بعد أن كان قد غلبه النعاس واضطجع على فراشه استعدادا للنوم ، فعاد واستعان بعصاه و خرج يستقبل القادم ، فهو يعلم من نباح كلبه أن زائراً ما قصده . حيّته ثم تبعته إلى مكان الجلوس ، و ما أن استوى على أريكته حتى تبعته ، و وضعت بعض النقود إلى جانبه ، قبل أن تعود و تجلس على الكرسي الوحيد في تلك الغرفة . سألها عمّا تريد ، و بعد أن سمع منها ما سمعه ، نظر إلى الأعلى ، ثم حنى رأسه إلى الأسفل ، و وضع يده على مقدمة رأسه ، ثم ركز عصاه في الأرض ، حتى ظنت أنه يريد الوقوف ، خاصةً وأنه حنى ظهره بما يوحي بذلك ، و لكنه استوى جالساً ، ثم بدأ كلامه : ابنك سيصبح عالماً ، وسيكون له فضل على الناس . فرحت كثيراً عندما سمعت منه ما قاله ، و كادت أن تقف و تخرج بعد أن حصلت على المطلوب ، لكنها أحسّت بأن هذا أمر غير لائق ، فتماسكت و بقيت في مكانها . تريد أن تعود سريعاً إلى المنزل لتخبر زوجها عن تفسير الحلم الذي يحمل بشارة خير ، نظرت إليه نظرة كلها إعجاب ، شكرته على هذه البشارة السعيدة ، فهي تثق بما قاله كونها تعلم أنه مرجع لكل أهل المنطقة ، ولمن يقصده في تفسير الأحلام ، و تفسيره يتطابق كثيراً و قلما يخطئ مع ما يتوقعه في ذلك . قبل أن تغادر أعاد لها نقودها ، اعتلاها الخجل من ذلك فكانت الحمرة واضحة على وجهها ، كانت تظن أنه يفعل ما يفعله ليحصل على المال ، ولكن تبين أنه يفعل ذلك عملاً بما تعلمه ، وآمن به ، وحباً و
إرشاداً ، فمن وجهة نظرها ، قلما يوجد رجال دين بهذه الصفات في واقعنا الراهن ، لذلك كانت مفاجأة لها عندما أعاد النقود إليها . عادت إلى منزلها فرحة مسرورة بتلك البشارة ، و تمنت أن يتحقق لها ذلك في حياتها ورجت الله أن يطيل عمرها وعمر أبي مكسيم إلى ذلك اليوم الموعود . ما أن وصلت المنزل حتى أخبرت أبا مكسيم بما جرى فأصبح حاله كحالتها ، سمتهما البهجة و السرور ، كم هو جميل أثر الخبر الحسن !!. في الجامعة انقضت مدة الاختبارات التي خاضها مكسيم ببراعة ، فحمل أشياءه الخاصة ، و عاد إلى قريته ليقضي تلك الفترة الواقعة بين عام دراسي و آخر . ما كادت قدماه تطأ أرض الدار التي كانت والدته تقف له فيها على أول درجة ، حتى بدأت الأحاديث المتعددة الجوانب ، فأخبرته عن رؤيتها ، وعما فعلته ، ستصبح عالماً يامكسيم ، ستصبح عالماً ، رددتها على مسامعه بصوت عال و بفرح وسرور . أخبرها عن امتحاناته ، و أخبره والده عن البقرة التي نفقت . سألهما :و ماذا بعد ؟؟ قالت والدته : لدينا رحلة سياحية سألها : إلى أين ؟ أجابت : إلى تلك المنتجعات في أعالي الجبال ، هي منطقة جميلة وذات طبيعة ساحرة ، وسوف نزور أماكن عدة أيضاً . أخبره والده أنه قام
بزيارته إلى طبيبه الخاص ، الذي أبلغه أنه في الغالب سيكون بحاجة لعمل جراحي . بعد أن استمع إليهما كلّ فيما قاله ، تجمعت تلك المعلومات في ذلك الرأس ، فاختزلها في ذاكرته ، لتحولها تلك الذاكرة صوراً في مخيلته . يريد أن يرى بعقله كل كلمة سمعها بأذنيه ، ليقيّم بقلبه كل كلمة ، و يرى ما رافقها من معانٍ ، و ليكون تقييمه صحيحاً و بالتالي اختياره سليماً ، و أول ما تبادر إلى ذهنه موضوع رؤية والدته و زيارتها إلى رجل الدين ابراهام ، وأحب أن يتعرف على ذلك الرجل عن قرب لقد سمع باسمه كثيراً ، ولكنه لم يحتكّ به ولم يره . إن ما سمعه من والدته عن ذلك الرجل يدل على أنه مختلف عن معظم رجال الدين في طريقة عيشه و لباسه ومكان إقامته ، وخاصة عدم قبوله للمال ، المال الذي أغوى معظم الناس حتى العظماء و الملوك و الحكام ، و حتى بعض الألهة ، فكيف قاومه ذلك الرجل ؟!، وتساءل مكسيم : أيكون المال هو الشيطان ؟!. بعد رجل الدين فكر بوضع والده الصحي و قرر أن يزور المشفى و الطبيب المعالج برفقته . بعد والده فكر بموضوع البقرة النافقة التي حدثه والده عنها ، خاصة ما طرحه عليه لجهة إيجاد حل لكيفية التخلص من الحيوانات النافقة ، خاصة أنه يتعلق بالبيئة ، مجال اختصاصه . كل ذلك لم يكن بالحسبان ، لقد حصل بعد أن عاد إلى القرية ، الأمر الذي اضطره لإعادة النظر في البرنامج الذي أعده سابقاً لهذه المدة الزمنية ، فتبدلت لديه الأولويات .
في اليوم التالي لعودته من المدينة حضر خاله غاندي لزيارته ، إنه في حالة شوق له فهو يحبه كثيراً ، والشبه بينه وبين مكسيم أكثر من الشبه بين مكسيم ووالده ، فلم يكن مسروراً بهذه الزيارة أكثر من مكسيم الذي يرى أيضاً خاله بمقام والده ، ولم يكن يحرج منه في طلب ، و لم يتررد في مسألة يطلبها منه ، مما شجعه ليطلب مرافقته إلى بيت رجل الدين ابراهام ، فجاءت استجابته سريعة و الموعد صباح الغد ، لأن رجال الدين في الغالب يستيقظون باكراً ، و سيضطر السيد غاندي - التزاماً بهذا الوعد - لأن يستيقظ بهذا الموعد والتوقيت ، لذلك اختصر مدة زيارته لمكسيم لكي ينام وقتاً كافياً بدل الساعات التي سيستيقظ فيها صباحاً . في الجامعة سافر البروفيسور فكتور ، أستاذ مادة المناخ ، في رحلة علمية خارجية لزيارة مدينة ثار فيها بركان منذ فترة ليست بالبعيدة بغية استطلاع المكان عن قرب برفقة فريق من دول عدة ، في مهمة لصالح إحدى المنظمات التي تهتم بأمور البيئة . سيبحثون فيها مدى تأثير البراكين على البيئة ، و خاصة ارتفاع درجة الحرارة ، و الغازات المنبعثة و الرماد البركاني ، وهناك وفي أثناء زيارتهم للمكان كان حضور مكسيم الدائم في ذاكرته ذا أثر إيجابي ، فمع كل ملاحظة يلحظها يتذكر طريقة أسئلته وأسلوب تفكيره ، فيعمل وفقاً لطريقته . في القرية حضر غاندي وفقاً للموعد المتفق عليه ، فكان رفيق درب مكسيم إلى بيت رجل الدين ابراهام ، قصداه سيراً على الأقدام ، فالمكان غير بعيد ، و السير على الأقدام في هذا التوقيت من اليوم مفيد ، حيث
يجعل المرء يشعر بالنشوة ، و خاصة ذلك الممر المتعرج الضيق و المغطى القسم الأعظم منه بأغصان الأشجار . سارا على مهل فكانت عقارب الساعة تسبقهما ، فلم يتوقفا إلا عندما وصلا أمام منزل رجل الدين ، حيث اعترضهما كلب هناك و هو ينبح بصوت عالٍ ومتكرر ، ولم يتوقف إلا عندما خرج رجل عجوز مسنّ ، إنه ابراهام ، هي تلك الصفات التي ذكرتها له والدته وهي تصفه له عندما كلمته عنه . استقبلهما و رحب بهما ، دخلا إلى غرفته التي هي أقرب إلى الكوخ ، لايوجد بداخلها سوى كرسيّ واحد ، فكان من نصيب غاندي ، بينما مكسيم استراح على الأرض فوق قطعة قماشية سميكة ، تبيّن أنها محشوة من الداخل بالقش ، لقد تحسسسها وهو يجلس عليها . جاءت زيارة مكسيم لكي يتعرف على هذا الرجل ويراه عن قرب ، و ليستمع إليه وينعم بحديثه ، وقد حصل على مراده ، فمن خلال ما سمعه منه من كلام أحس وكأنه أدرك هدف الزيارة . لقد كان معظم كلامه يدل على ذلك ، فقد أجابه عن معظم تساؤلاته من دون أن يسأله ، حتى أنه شكره على اهتمامه بالبيئة ، و مساهمته في نشر زراعة الأشجار ، و الحفاظ على تلك الغابة و الاهتمام بها ، و رفده لها بأنواع جديدة ، و خاصة الخرّوب ذات الفوائد المتعددة ، والتي أهمها تميزها في امتصاص كميات أكبر من غاز الكربون السام ، و طرحها للأؤكسجين النقي . حدثهما أيضا عن أثر الإيمان و الصفاء الذهني و الصدق و الإخلاص في الإبداع و اتقاد الذهن ، فشبه الإبداع بالظرف الجوي للغيمة التي تجلب المطر ، أثناء ذلك حضرت امرأة كبيرة السن و قدمت لهما القهوة . حديث ذلك الرجل الممتع جعل الوقت الذي قضاه معه يمر خفيفاً سريعاً ، كان قد مضى
ساعتان من الوقت على زيارتهما عندما نظر مكسيم إلى عقارب الساعة التي في يده . عندما وقفا استعداداً للمغادرة مدّ مكسيم يده ليصافحه مودعاً ، وكذلك فعل خاله . رغم أن الجلوس على الأرض لم يكن مريحاً ، لم يشعر مكسيم بالانزعاج ، وذلك لسعادته بهذا اللقاء . في طريق العودة سأل مكسيم خاله : هل هذا الرجل عرّاف؟!، لقد أجابني على كل مايدور في خلدي ، من دون أن أسأله ، كنت أظنه لا يعلم ما بداخل غرفته ، فتبيّن أنه يعلم كل ما يجري في القرية ، أما سمعته يشكرني على فعلي في زراعة الأشجار؟!، فمجرد أن ذكرت له اسمي عرف عني كل شيء . أجاب خاله : نعم سمعته . و تابع حديثه عن ذلك الرجل قائلا : لقد أتى إلى هذه القرية منذ زمن بعيد ، ولا نعلم من أي جهة أتى و استوطن هنا ، لا نعلم عنه إلا خيراً ، و هو رجل زاهد ، عابد ، لكنه يدين بدين آخر غير دين أهل القرية . فقال مكسيم : أعتقد أن لذلك الأثر الكبير بما هو فيه من تصوف ، ثم التفت نحو خاله وهو يتلفظ بعبارات متتالية : إذاً سأصبح عالماً ياخالي ، هكذا فسّر حلم والدتي ، تابع خاله القول : و ستفيد البشرية جمعاء . عندما عرف أن والدته حدثت شقيقها عن تلك الزيارة ، سأله مكسيم : ألا تعتقد ياخالي أن الحلم شيء من الوحي ، أجابه : ممكن . نظر مكسيم إلى الساعة فوجد أن الوقت مازال باكراً ، فاصطحبه إلى مزرعته ليتفقد الحظائر الفارغة إلا من بعض رؤوس البقر ، وبعض
خلايا النحل ، و عدد من طيور الدجاج ، و لدى وصولهما إلى هناك وجد أن كلبه قد سبقهما إليها . انقضت بضعة أيام من العطلة لم ينقطع فيها تفكيره عمّا خطط لفعله ، لقد شغله موضوع الحيوانات النافقة ، يريد أن يجد حلاً نافعاً لها يضمن سلامة التصرف بها وصحته . من خلال ملاحظاته واستقراءاته ، وبعد تمحيص وتفكير عميق ، وجد أن أساس هذا الموضوع يبدأ من لحظة وجود الحيوان في الحياة ، فهي نقطة البداية للمعالجة الصحيحة ، فمن لم يكن وجوده مثبتاً سيكون مصيره مجهولاً أو من الصعوبة معرفة مصيره . تأخرت أم مكسيم في عودتها إلى القرية من رحلتها ، و على غير عادتها لم تتصل ، فما كان من مكسيم إلا أن حاول الاتصال بها ، استجاب الجوال و سمع مكسيم من خلاله الإشارة المخصصة لذلك و لكن لم يتم الرد !. حاول مرات عدة و لم يصل إلى جواب ، الشيء نفسه في كل مرة ، و بعد هذا اليأس من سماع الطرف الآخر ، أغلق مكسيم الجوال و نظر إلى الساعة ، إنها التاسعة مساء ، لقد بدت علامات القلق تفضح أسارير وجهه ، و عندما همّ بالبحث عن رقم الشركة التي تعمل والدته بها لأجل الاتصال و السؤال عنها ، سمع في الخارج صوت محرك عربة تقف بجوار المنزل ، أسرع باتجاهها يستكشف القادم ، فجاء صرير فتح الباب جواباً ، إنها والدته . أسرع باتجاهها وهو يسألها عن سبب تأخرها ، ثم عن سبب عدم ردها على اتصالاته ، دخلت وهي تحمل بيدها شتلة ورد عليها بضع زهرات جميلة اللون ، صغيرة الحجم ،
زكية الرائحة ، قالت : مهلاً مهلاً بنيّ ، سأخبرك وتابعت : لقد أحضرتها لك من تلك الغابة التي كنا في زيارتها ، لقد استغرقت وقتا لأجل ذلك مما جعلني أنسى جوالي في المكان الذي نزعتها منه ، حيث تنهدت عالياً وهي تردد : ياله من ثمن مرتفع دفعته لأجل الحصول على شتلة ورد برية . أجابها مكسيم : لا يوجد شيء مفيد يحصل عليه الإنسان بلا ثمن . هذه الوردة برائحتها الزكية ، و لونها الجميل ، و منظرها الحسن ، ستكون أغلى ثمناً من الجوال الذي فقدتهِ لأجلها و سأحضر لك جوّالاً أفضل منه . تناول الوردة من والدته و وضعها في إناء ، ثم قام برشها بالماء حفاظاً عليها كيلا تذبل ، و يقوم بزراعتها في يوم غد . بعد أن كان أبو مكسيم قد قصد غرفة نومه عاد ليستقبل أم مكسيم التي ماانفك ينتظر قدومها منذ ساعات ، حتى أصابه الملل . سألها عن سبب تأخرها ، فأخذت تحدثه عن الرحلة و الأماكن التي زاروها و عن الوفد السياحي ، قصت عليه أيضاً ما جرى بشأن جوالها ، فجاء الجواب عن سؤاله في ختام حديثها ، فقال لها بما يشيه التهكم : يا لها من وردة رائعة ؟!. شعرت أن هذا الأمر أزعجه ، و خاصة عندما وضع يده على رأسه ليتلمّس صلعته ، بعد أن أصبح رأسه بلا شعر على إثر سقوطه بعدما بدأ بعلاج مرضه ، فالقبعة التي يضعها على رأسه عادة حتى في البيت ، كان قد نسيها على الوسادة فوق سريره عندما كان ذاهباً لينام .
قام مكسيم بزراعة الوردة ، و بدأ يعتني بها ، أما بالنسبة لدراسته فمع مضي الأيام قُدماً كان يتلقى نتائج اختباراته تباعاً ، إما من زملائه ، وإما عبر النت ، فلم تكن خارج ما هو متوقع منها . في الجامعة ، و عندما كان البروفيسور فكتور يستخلص معلوماته من تلك الزيارة الميدانية التي قام بها للبركان ، ويستنتج ما توصّل إليه فكره ، كان يتمنى لو أن مكسيم شاركه في جلسته هذه ، فهو الطالب الوحيد الذي حصل على العلامة التامة في المادة التي يقوم بتدريسها . في القرية توفي رجل الدين ابراهام ، وقد تم دفنه وفق المراسم المعتادة . مضى الشهر الأول من العطلة ، أحب مكسيم أن يقوم بزيارة إلى الجامعة لعله يلتقي بعضاً من أصدقائه ، ويطّلع على ما تبقى من نتائج اختباراته بنفسه ، فكان له ما أراد ، فمن بين الذين شاءت الصدف أن يلتقيهم البروفيسور فكتور . لقد لقي منه الاهتمام الواضح ، استغرب مكسيم هذا الاهتمام ، و ظن أن سبب اهتمامه به هو حصوله على العلامة التامة في المادة التي يدرّسها . فكما يروى عنه ، فهو قليل الكلام ، ففي غير المحاضرات و القاعات التي يلقي فيها محاضراته على الطلبة لا يسمع صوته ، ولا ترى صورته ، وعلى الرغم من ذلك استقبله في مكتبه ، و حدثه عن زيارته للبركان ، و عن ملاحظاته و استنتاجاته . سأله مكسيم بعض الأسئلة عن الرماد المتصاعد ، و الدخان المركوم المتواتر ، ومما قاله في هذه الجلسة موجهاً كلامه للبروفيسور : ألا تلاحظ أستاذ فكتور أن كل ما يخرج من باطن الأرض يحمل ضرراً أو بعض الضرر باستثناء المياه ، فجاء الجواب طويلاً و معللاً .
انتهت الجلسة بعدما خرج البروفيسور من مكتبه لحضور اجتماع حان موعده ، بعد أن أبلغ مكسيم عن مكان و زمان محاضرته القادمة عن البركان . عندما كان مكسيم عائداً إلى القرية أسعده اللون الأخضر الذي لاح له من محيط ذلك اللهب المستمر من خلال عمود مرتفع ، إنه لون تلك الشجيرات التي غرسها هناك ، لقد كبرت ، ياله من منظر جميل !. تساءل : ألا يمكن التخلص من تلك الشعلة و ذلك الدخان الأسود الذي يتصاعد منها أحياناً..؟!. وبقي يفكر فيها حتى وصل إلى القرية ، ولدى وصوله وجد أن الحالة الصحية لوالده غاية في السوء ، فاتصل بطبيبه المعالج على الفور يخبره بحالته ، والذي بدوره طلب منه إحضاره للمعاينة ، مع بعض الإرشادات التي عليه اتباعها لحين وصوله إلى العيادة . بينما كانت والدته تجلس بالقرب من زوجها ، و بين يديها الجوال الحديث ، وهي تنظر إلى شاشته و تتلمسها بأناملها صعوداً و هبوطاً ، يمنة و شمالاً وهي تبتسم ، نظر إليها مكسيم و خاطبها : سيدتي والدتي العزيزة ، هاتي أخبريني ، على ما يبدو لديك أخبار سارة ، أجابت دون أن تنظر إليه : نعم نعم ، خالتك تخبرني عن خطوبة ابنتها و بعثت إليّ بصور جميلة ذكرتني بيوم خطوبتي ، ملايكة يالها من فتاة جميلة ، إنها تشبهني أكثر من والدتها فهي قريبة الشبه من جدتك ، وأنا أشبه والدتي كثيراً ، وكريستين تشبهني . والدتي رحمها الله كانت جميلة جداً ، اسمها ملايكة ، فكانوا ينادونها الملكة ملايكا .
أخذ مكسيم يقارن بين حالتها و حالة والده ، زوجان لا تفصلهما عن بعضهما سوى سنتيمترات ، واحد يتألم والآخر يترنم ، و قال في سره : يا لفعل الحضارة ، كان الإنسان يفكر بأخيه الإنسان و لو لم يكن من صلبه أو من قرابته ، و يتأثر لحالته فرحاً و حزناً ، أما الآن يكون ملتصقاً به ودمه من دمه ولا يشعر به . قام مكسيم بإسعاف والده متجهاً إلى عيادة الطبيب المعالج ، فأحواله الصحية السيئة بادية عليه بوضوح ، على الرغم من ذلك لم يكن يريد الذهاب إلى الطبيب ظناً أن هذا الوضع من فعل السرطان ، لكن إصرار مكسيم جعله يغير رأيه . المسافة ليست بالبعيدة ، على الرغم من ذلك كانت سرعة السيارة التي يقودها مكسيم على غير العادة ، فهو يريد الوصول إلى العيادة بأقصر وقت ، نعم هكذا تفعل سيارات الإسعاف . في العيادة كان سرير الكشف والمعاينة الحضن المنتظر لأبي مكسيم ، فمع حضوره حضر الطبيب ، كانت تحيته مقتضبة ، كلمتان بعدهما كان لنظراته وأنامله الدور والمهمّة لمعاينته واكتشاف أسرار الأسارير . جس نبضه ، قاس ضغطه ، وشاهد ملحمة عينيه ثم أجرى له اختبارات للسكر ، وهذا ما كان يعتقده فتيقّن من صدق تشخصه ، فهو يعاني من ارتفاع نسبة السكر في الدم . انفرجت أسارير مكسيم بعدما علم بوضع والده ، ولكنه لم يكن على مايرام ، يريد معرفة السبب ، فكان تفكيره مشتت بين الكلمات التي يسمعها من الطبيب وهو يطلب إليه إحضاره إلى المشفى في الغد لمعرفة تأثير هذه الوعكة على وضعه الصحي ، وما يتبادر إلى ذهنه عن سبب ارتفاع السكر . حمل بعض الأدوية وخرج برفقة والده ، الذي بدا مرتاحاً بعد المعاينة وتناوله لبعض حبات الدواء . في طريق العودة حدّثه
والده عن معاناته في الحصول على بعض الأدوية ، سأله مكسيم : أبي ، هل تتناولها في أوقاتها المحددة ؟، رد على الفور : طبعاً طبعاً ، إذاً لماذا حصل لك ذلك ، هل تتقيد بوجبات الطعام ؟!! ، أجابه: نعم وبكميات أقل من المقرر . وقع مكسيم في حيرة من أمره ، فلم يبقى سوى العامل النفسي ، إذاً هناك من أزعجه ، ولا يوجد في البيت سوى والدتي ، أهي السبب إذاً؟!. التفت إلى والده وخاطبه قائلاً : هل اختلفت مع أمي ، هل أزعجتك بشيء ؟. مع هذا السؤال كانت السيارة قد استقرت أمام المنزل ، ترجلا منها ، فكان مكسيم يسير وراء والده وهو يراقب تنقلات المثقلة ، وأخذت تلوح له بعض الصور القديمة لوالده عندما كان ينقل خطاه كمحارب في ساحات الوغى يوم كان يقطع أشجار الغابة ، فقال : ما أتعس الإنسان ؟!. دخل المنزل حيث بدت على أم مكسم علامات القلق ، تريد أن تعرف وتطمئن على شريك حياتها ورفيق دربها . عرف مكسيم ماتريده والدته ، فأخبرها ماهو مطلوب باقتضاب ، وترك الباقي لصاحب الشأن ، ولم يغب عن باله معرفة سبب حالة والده الطارئة . بعد أن أنجز مكسيم بعض الأعمال في المنزل ، وكان والده قد خلد للنوم ، جلس يتحدث مع والدته ، فسألها عن عملها ، بادرته على الفور قائلة : لقد طلب والدك مني الاستقالة كي أبقى بجانبه ، وماذا قلت له : أخبرته بأنني لا أستطيع ، وماذا كان رأيه : لم يكن مرتاحاً ، حيث بدت عليه علامات عدم الرضا والانزعاج . علم مكسيم سبب حالة والده ، لقد أصابه الحزن بسبب
رفضها الاستجابة لطلبه ، فمن الصعب أن يلقى الإنسان الرفض لطلب ممن يحب ، وخاصة إذا جاء من رفيقة دربه ومحبوبته الأولى والأخيرة . أيدها مكسيم في قرارها ، فهو الذي نصحها سابقاً بأن تبقى في عملها عندما كانت ترغب بالاستقالة ، فالإنسان إن لم يكن لديه عمل مفيد يؤديه ، سيقع في الفراغ المقيت الممل ، وسيشعر أنه عديم القيمة ، وخاصة إن كان في صحة جيدة ، فإذا كانت الشجرة التي لا تثمر يتم قطعها ، فكيف بالإنسان غير المنتج ، وخاصة إذا كان يتمتع بصحة جيدة . نعم سيكون الإنسان ضحيّة كما تلك الشجرة التي لا تثمر فتستهدف بذاتها ، بينما الشجرة المثمرة تحميها ثمارها ، وتضمن لها البقاء . أعاد مكسيم التوازن لأفكار والدته ، بعدما أيدها بعدم تركها لعملها لكي تتفرغ للعمل في المنزل . مع انبلاج فجر يوم جديد ، استيقظ أبو مكسيم من نومه باكراً ، ووفقاً لعادته جلس على شرفة المنزل المطلة على الغابة ، وهو يحتسي القهوة المرة ، أطال النظر بتلك الغابة ، فكانت النسمات القادمة منها تشق رئتيه وتخترق قلبه ، فتبعث فيهما طعم الحياة . و بينما كان مكسيم يغطّ في نوم عميق ، اشتم أبو مكسيم رائحة طيبة أخذ يبحث عن مصدرها ، فتبين له أنها منبعثة من تلك الوردة التي أحضرتها زوجته معها من الجبل ، والتي بسببها فقدت جوالها ، فخطا نحوها ، مسها بأنامله ، واشتم رائحتها ، لقد أعجبته كثيراً ، فكرر الأمر مرات عدة وهو يحني ظهره ، ثم انتصب واقفاً وهو يقول : ما أجمل الرياحين في ألوانها وروائحها ، وكأنها ملائكة رحمة أرسلت للبشرية ، لذلك فهي موجودة في كل المناسبات ، في حفلات الزواج ، وتقدم للمرضى ، وفي استقبال الوفود ، ويتبادلها العشاق
المحبون ، ويكلل بها المنتصرون ، وحتى عندما يشيّع المرء إلى مثواه الأخير ترافقه الورود . استيقظ مكسيم ، غسل وجهه و لبس ثيابه ، ارتشف ما تبقى من القهوة التي أعدها والده ، وذهب إلى العربة تفحصها ثم عاد إلى المنزل فوجد والده بكامل الاستعداد للذهاب إلى المشفى . صعد إلى السيارة ، وجلس في المقعد الموازي للسائق ، كان مكسيم يقود العربة بهدوء وتوازن ، وعلى الرغم من ذلك كان يسمع بعض التوجيهات من والده وهما يتحادثان ، لقد اتفقا أن يقوما بزيادة لصديق والده أبي فرح أثناء العودة . عندما كانا يسيران في المدينة وهما يتجهان إلى المشفى صادف مرورهما من أمام مستودع الفحم الذي كان يتعامل معه فلم يلحظ وجوده ، ومن الواضح أنه تحول إلى محل لبيع الزهور ، فواجهته الآن أشبه بحديقة ورود من كل الأصناف . منظر جميل تسمرت عينا أبي مكسيم عليه ، حتى أنه طلب من مكسيم أن يتمهل كثيراً ليتسنى له رؤيته أكثر ، نظر إليه ملياً ثم ترحم على صاحبه ، صاحب متجر الفحم سابقاً والذي توفي وتبيّن أن ورثته قاموا ببيع المتجر إلى بائع الزهور ، فقال مكسيم : بالتأكيد لقد أسهمت مهنته في رحيله باكراً عن هذه الدنيا ، لم يكن معمّراً ولم يبلغ عمره الستين عاماً . سبحان مغير الأحوال ، فمن الشحار إلى الورود ، ومن النتانة إلى الروائح المنعشة ، لقد عاش المحل ومات صاحبه . وصلا إلى المشفى ، ركن مكسيم السيارة في المكان المخصص ، وأقفلها بوساطة جهاز التحكم وهو يسير برفقة والده باتجاه المدخل الرئيس
إجراءات بسيطة لم تطل كثيراً ، أصبح أبو مكسيم بعدها في غرفة المعاينة . سأله الطبيب عن أحواله فجاء جوابه سلبياً ، وأخذ يحدثه بصراحة عما يحدث معه ، أخبره عن كل شيء دون حرج ، فسأله الطبيب إن كان يلتزم بالإرشادات في الطعام ، وتناول الدواء فأكّد له ذلك . قام الطبيب بمعاينته بواسطة تجهيزات خاصة ، وقد احتاج فيها لوقت لا بأس به ، طلب الطبيب بعدها إجراء بعض التحليلات ، حيث لاحظ من خلال تلك الفحوصات أن حالته تستدعي عملاً جراحياً ، فاتجه مكسيم برفقة والده إلى المخبر ، حيث كان يسبقه بخطوات ، وعندما التفت إليه لاحظ عدم وجود القبعة على رأسه ، عرف أنه نسيها في العيادة ، عاد وأحضرها له ووضعها على رأسه ، فاختفت صلعته التي كانت أنوار مصابيح المشفى المضيئة تنعكس عليها . بعد أخذ العينات للتحاليل ، غادرا المشفى بانتظار ظهور النتائج ، وفي أثناء العودة غير أبو مكسيم رأيه بشأن زيارة صديقه وطلب من مكسيم متابعة سيره باتجاه القرية بدل الاتجاه إلى مكان إقامة أبي فرح ، لقد شعر بالتعب ويريد العودة إلى بيته للاستراحة ، فانصاع مكسيم لأمره ولو أنه كان يرغب بتلك الزيارة . في الجامعة قدم البروفيسور فكتور بحثه العلمي بنتائجه ، ومقترحاته المتعلقة بتأثير البركان على المناخ بشكل عام ، وعلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل خاص . لاقى البحث استحسان أهل الاختصاص والعاملين في هذا المجال ، ومنهم مكسيم الذي تمعن في قراءته لدرجة أنه أعاده مرات عدة ، وتوقّف عند كل عبارة وردت فيه . لقد أعجب جداً بنتابجه ، فقد كان يفعل كما يفعل الجواهرجي عندما يرسو على جوهرة مميزة ، فالمعلومات التي تضمنها البحث قيّمة ، هكذا رآها . فكر كثيراً ، هل يتقدم
بالشكر لأستاذه أم أن ذلك في غير محله؟ ، فالشكر يأتي من الأكبر ولكنه أصرّ على التعبير عما يدور في خلده . بعد أن حصل مكسيم على نتائج التحليل المخبري لوالده ، حملها إلى الطبيب المعالج ، وبعد أن ألقى عليها نظرة ، لم يستطع استنتاج أي شيء سوى مشاهدته لبعض الخطوط الحمراء التي يعلم أنها تعني الخطر ، فعلاً اللون الأحمر عنوان الخطر حتى ولو كان لون الدم في العادة . أصبحت نتائج التحاليل بين يدي الطبيب وتحت أنظاره ، فأخذ يتمعن بها و مكسيم يستقرئ نظراته فهي غير مطمْئنة ، هز الطبيب رأسه ونظر إلى مكسيم ، ثم قال له : لابدّ من العمل الجراحي . خرج مكسيم من عيادة الطبيب والوجوم يعتلي وجهه ، وعاد إلى القرية وهو يفكر كيف سيقنع والده بإجراء العمل الجراحي ، فهو يعلم أنه سيرفضه ولا يرغب به . على الرغم من وضع والده الصحي ، لم تغب عن باله باقي الأعمال التي خطط لها ، ولا زال يتابع مشكلة التصرف بالحيوانات النافقة ، وخاصة إحكام سلامة سلوكها الطرق الأمنة إلى الحرق في الأفران الخاصة بذلك ، فكان يردد عبارة هامة : من لم يكن وجوده مثبتاً سيكون مصيره مجهولاً ، حيث وجد أن البداية الصحيحة تبدأ من إثبات الوجود ، من هنا كانت البداية ، ورأى أيضاً أنه لابد من الحصر والقصر ، فتعدد المراجع يضيّع المسألة . هكذا بدأ ، فكان يجد الفكرة ثم يقوم بدراستها فيقارن بين حسناتها ومساوئها كما يفعل البنّاء . تراكمت أمامه الأفكار والأوراق المرقّمة ، المليئة بالرسومات الخاصة ، لقد كان يحتفظ بكل شيء .
نجح في إقناع والده بالعمل الجراحي ، حيث لم يجد صعوبة كما كان يتوقع ، وعلى الأغلب ثقة والده به أعانته على ذلك . وعندما حان الموعد كان استعداد أم مكسيم أكثر من زوجها للذهاب إلى المشفى ، فرافقته بكل خطواته ، حتى أنها وقفت مع مكسيم تنتظر خروجه من غرفة العمليات ، ولم تتعب من المدة الطويلة التي استغرقتها العملية ، لكنها كانت قلقة . نعم إنها الزوجة الصالحة ، ومن له غيرها في مثل هذا الظرف ، أليست رفيقة دربه ومحبوبته الأبدية؟. عندما خرج الطبيب الجرّاح والابتسامة تعتلي وجهه ، بانت حالة الانفراج على محياها ، غمرتها السعادة عندما أبلغها بنجاح العملية وهو يهنئها على سلامته . شكرت الباري كما فعل مكسيم ، وكانت تكتنفها الغبطة وهي ترافق سريره من غرفة العمليات إلى غرفة الإنعاش ، وبعد أن أمضى الوقت الكافي في المشفى عاد إلى القرية ليعيش بجوار توأم روحه . اطمأن مكسيم على وضعه الصحي ، فتفرغ لأعماله الخاصة التي يريد أن ينجزها ، فهو لا يحب التأخر وليس من شيمه ، فقام بزيارة البروفيسور فكتور ، وقدم التهنئة له بعمله ، وحضر إحدى المحاضرات الهامة المتعلقة باختصاصه ، وأحضر بعض المراجع ، ثم أقفل عائداً إلى القرية . في طريق العودة كان يجول في فكره كلام الكاهن ابراهام ، وخاصة ما يتعلق بتفسير رؤية والدته ، وأخذ يتساءل هل سيكون له شأن عظيم في المستقبل كما توقع ، وهل سيصبح بروفيسوراً مثل فكتور ؟. بينما البروفيسور فكتور كان يرى في مكسيم المنافس المنتظر ، وفي خاطره كان يعترف بأن شيئاً من نيران الغيرة تشتعل في داخله .
إنه الشهر الأخير من العطلة الجامعية ، لقد مضى الوقت مسرعاً ، أنجز فيه مكسيم كثيراً من الأعمال التي خطط لإنجازها ، و لا يزال أمامه بعضاً منها ، وخاصة موضوع الحيوانات النافقة . وبينما كان ينظر في الأفق البعيد ، وهو يجلس على شرفة المنزل المطلة على الغابة ، تذكر والدته عندما كانت تشاهد الصور التي بعثتها شقيقتها عبر الواتس ، فخطر بباله مشاهدتها ، وخاصة ليرى ابنة خالته كريستين التي تشبهها وفقاً لما أخبرته سابقاً ، ومن أنها تشبه جدتها الجميلة . لقد أحب أن يعرف كيف كان شكل جدته التي توفيت عندما كان صغيراً بحادث سير مروع ، فتوجه إلى مكان تواجد والدته ، تناول جوالها وبدأ البحث عن مكان حفظ الصور ، وعندما وجد الملف أرسله إلى جواله بواسطة البلوتوث ، ثم أعاد الجوال إلى والدته . سألته : لماذا أعدته يا بني ، دعه لديك وشاهد ما تريده ، لماذا غيرت رأيك؟، أجابها مكسيم بأنه حصل على كل ما يريد . عاود الجلوس مكانه وأخذ يستعرض الصور واحدة واحدة ، و رويداً رويداً ، و عندما كان يشاهد فيديو الحفل كان يوقفه مرات عدة ليتمعن في تقاسيم ابنة خالته ، فكان يردد : فعلا ً إنها جميلة . انتهت العطلة ، وعاد مكسيم إلى جامعته ، عاد إلى كتبه وشؤونه الدراسية ، فلم يكن يغيب عن أي محاضرة ، و لا يتخلّف عن أي موعد ، دائم الحضور مع أساتذته وبين زملائه من الطلبة وحتى من هم يسبقونه في سنواته الدراسية ، فكان من ثمرة ذلك أنه حصل على المرتبة الأولى لعامه الدراسي في السنة الثالثة ، التي أنهى خلال دراسته فيها أيضاً
موضوع الحيوانات النافقة ، وقام بتقديمه للجهات المختصة بالحكومة ، لكون الأمر يتعلق بالدولة ، وهو من شأن السلطات المختصة ، وقد يحتاج إلى تشريع ، وقرارات خاصة في حال لاقى القبول ، وتمنى أن يحصل الأمر ، فبعدها لا يستطيع أحد أن يتصرف بأي من تلك الحيوانات ، وبالتالي تحفظ صحة الناس وحقوقها ، والبيئة أيضاً ، فلا تلقى في العراء كما يتم الآن ، ولا يعد بمقدور أحد أن يستغلها في إيصال لحومها إلى المطاعم ، كما يفعل هرشو وأمثاله من ضعاف النفوس وعديمي الضمير والأخلاق الحسنة . وكما فعل مكسيم في العطلة السابقة ، قام أيضاً هذه العطلة برسم خطواته للأعمال التي يفكر في إنجازها خلال هذه المدة ، فخصص وقتاً لمزرعته وآخر لمشكلة معمل الإسمنت ، ذلك المعمل الذي أنشئ على شاطئ البحر مكان بساتين الليمون والزيتون ، وبجوار ما تبقى منها في بيئة ساحلية جميلة وساحرة ، تحيط بها مجموعة من القرى ، توزعت وتناثرت مثل حبات اللؤلؤ من عقد تبعثرت حباته ، فمنها في أعلى التل ، ومنها في قلب الوادي ، والبعض منها على السفح . لقد كانت تلك القرى تنعم بالهواء النقي قبله ، أما الآن وبعد تواجد هذا المعمل تغيرت أحوالها ، الغبار والشحّار ليل نهار . فكر مكسيم أن يجد حلاً لهذه المشكلة البيئية الخطيرة التي لم يكترث بها أحداً ، حتى من العاملين في المنشأة نفسها . لقد تعلم من تجربته في الحياة أن حل أي مشكلة يبدأ من معرفة أسباب وجودها ، و التعامل مع أي شيء يتوقف على معرفة مكوناته ، فرأى أنه لابد له من الاطلاع على طريقة وآلية عمل تلك المنشأة ، وخاصة ما يتعلق بالفرن والمدخنة مصدري التلوث . إذاً لابدّ من
زيارة الشركة وستكون هي الخطوة الأولى ، ليس لديه معرفة بطرق الدخول إليها ، لذلك راح يبحث عمّن يعرفها . بدأ من المقربين ثم الأصدقاء ، فلم يجد أحداً ، وخوفاً من ضياع الوقت بادر من نفسه في البحث عن الطرق التي ستوصله إلى المعمل ، متذكراً المثل القائل : من اتكل على زاد غيره طال جوعه ، نعم إنه مثل رائع ، والاعتماد على النفس صفة حسنة . حزم أمره قاصداً غريمه الذي سيراه من الداخل لأول مرة ، وهو يقترب من المدخل كانت نظراته لا تفارق ذلك الغبار المتصاعد من المدخنة ، ولما وصل إلى أمام الباب الرئيس للشركة ، تقدم رجل خمسيني وسأله إن كان يريد أحداً ، تبين له فيما بعد أنه الحارس . أخبره برغبته في التعرف على المعمل ، وسأله بعض الأسئلة التي تفيده في مراده ، فكان الحارس يرد على أسئلته بحذر واستغراب ، علامات تعتلي وجهه بوضوح تام مما أخبره ، لابد من موافقة المدير ، فسأله : وكيف يكون لي ذلك ؟ أجاب : اتصل به . كيف؟ دخل الرجل إلى محرسه ، أمسك سماعة الهاتف وضغط أزراراً عدة ، تكلم بعدها كلمات عدة ثم طلب منه التقدم للتحدث معه . كانت الحيرة ترتسم على محياه و هو يتكلم عبر جهاز الهاتف ، بعد أن أمسك السماعة وقال :ألو ، سمع صوتاً يقول : أهلاً ، ماذا تريد ومن أنت؟ .
أجابه عن مراده ، وشرح له باختصار شديد عن مشروعه ، فتغيرت نبرات صوت المدير الذي رحب به ، كان الطريق إلى مكتبه ميسّراً ، لدى وصوله لاقاه بوجه بشوش وصدر رحب ، وهناك وبعد جلسة طالت بعض الشيء ، استمع مكسيم فيها إلى ملاحظاته ، وحصل منه على معلومات تتعلق بآلية العمل في المعمل ، واستدلّ على من يمكنه مساعدته في تسهيل مهمته . وبعد جولات عدة اطّلع من خلالها على كافة أقسام المعمل ، دوّن مكسيم كل مشاهداته ، وملاحظاته واستنتاجاته ، وتوقف عند الفرن ومدخنة الغبار كثيراً ، واستمع لمن يعمل هناك آخذاً بعض الآراء منهم ، وقبل خروجه لم يفته شكر الإدارة على الاهتمام بمهمته هذه ، والتي هدفها الخير لكل الناس . فعندما تكون الغاية من أي عمل الفائدة العامة ، يكون القبول محتوماً ، ولو كان يتطلب التضحية ، ولكي يكتمل عمله كان لابد له من الاطلاع على جغرافية المنطقة التي تحيط بالمعمل ، فقام بزيارة بلدات عدة وبعض القرى ، شاهد من خلالها عيّنات مختلفة من التلوث . عاد إلى قريته وقلبه يعتصر ألماً مما رآه ، وتساءل : من الذي فكر في إقامة تلك المنشأة في هذا المكان ؟!!!!! ثم قال : يجب أن يعود الحال إلى ما كان عليه ، بل أفضل ، ويجب أن يزول هذا المعمل ، ويقام بدلاً منه مشاتل ورود . تفكير مستمر مع صمت وتأمل لبرهة ، تكلم بعدها قائلا : أعتقد أنه لن يحصل ذلك حتى ولو وقع زلزال ، ومادامت توجد عقول اقتصادية وإدارية عوجاء ، لأن تلك العقول تنظر إلى المنتج من دون النظر إلى الأثر الذي ينتج عنه ، حتى ولو كانت ضحيته الإنسان نفسه في النهاية .
لكي يكمل عمله بشكل دقيق و يصل إلى النتيجة السليمة ، كان لابد من زيارة المعمل مجدداً ، فتكررت زياراته كثيراً . لاحظت والدته ذلك فظنت أنه يعمل في الشركة ، وعندما سألته لتتأكد ، علمت السبب ، ثم عاودت سؤاله : ولماذا كل يوم؟، أجاب : الوقت ضيق وستفتح الجامعة أبوابها قريباً ، أريد إنجاز المهمة قبل ذلك لأتفرغ للدراسة . سألته : وماذا بشأن مزرعة الأبقار ، فوالدك لم يعد بمقدوره متابعتها بمفرده ، لقد أصبح طاعناً في السنّ ، والعامل سيغادر إلى بلده؟!، أجاب : سأتدبر الأمر ، ولقد أقنعته بتأجيل السفر قليلاً ريثما يجد البديل . قالت : لماذا لا تبيعها وترتاح ، فتتفرغ لدراستك؟! ، فرد عليها : على العكس أسعى لتطويرها ، وهي مصدر رزقنا وكلها فوائد . سألته عن موضوع الحيوانات النافقة ، فأخبرها بما توصل إليه ، وبما فعله بموضوعها . تمنّت والدته وهي تسمع تلك الكلمات أن لا يضيع جهد ابنها ، ورجت الله أن يوفقه فيما يسعى إليه في معالجة أمور غايتها الإنسان في كل مكان ، وتذكرت ما قاله ابراهام وأيقنت أنه سيصل إلى نتيجة مفيدة للبشرية جمعاء .
احتفظ مكسيم بالمعلومات التي حصل عليها ، والأفكار التي توصل إليها في فلاشة (جهاز صغير تخزن فيه معلومات من الأجهزة الإلكترونية) ، إضافة إلى الأوراق التي تتعلق بالموضوع . على الرغم من استغلاله للوقت بالشكل الأمثل ، إلا أنه لم ينجز ما خطط واستعد له خلال العطلة ، وبقي لديه بعض المواضيع الصغيرة لكنها هامة ، فأحياناً تكون هي العامل الأساس ، فصغر الشيء أحياناً ليس مقياساً لأهميته ، فالسيارة لاتعمل دون المفتاح الذي هو أصغر قطعة فيها . فقرر متابعة الموضوع في أثناء العام الدراسي ، فأخذ يفكر بهؤلاء العمال الذين يعملون في شركة الإسمنت ، وفي الإجحاف الذي يلحق بهم من جراء تلك البيئة الملوثة ، ويقارن بينهم وبين أمثالهم من العاملين في أماكن نظيفة ، ويردد : ألا يكفينا مايصيبنا من عوادم السيارات ، والاحتباس الحراري ، ونواتج البراكين ، ودخان المصانع، و..و..و.. بدأ مكسيم عامه الدراسي كأعوامه السابقة ، بجد ومثابرة ، ولم يدع مهمته في معمل الإسمنت تؤثر عليه ، فكان لكل شيء وقته المحدد . استفاد من مخبر الجامعة للقيام ببعض التجارب الضرورية ، لقد كان سعيداً وهو يقوم بالتجربة الأخيرة لموضوع المعمل ، بعد محاولات عدة تأكد له فيها صحة ما يصبو إليه . لقد نجحت التجربة ، وبالتالي وجد الحل ، فلا غبار بعد الآن ، لا بل وأمكنه من الحصول على مادة يمكن الاستفادة منها في عملية البناء من ذلك
الغبار ، لقد حوله من مادة ضارة إلى مادة نافعة ، بعد أن يتم قطف الغبار بواسطة رذاذ الماء ، إنه منتج قليل الكلفة ، كثير الفائدة ، عديم الضرر . حان وقت تقديم البحث بنتائجه ، فلمن سيقدمه من أجل تقييمه؟، حتما للبروفيسور فيكتور ، وهذا ما فعله ، قدمه وأخذ ينتظر النتيجة . انصرف مكسيم لدراسته وتفرغ لها ، ولم يتبقّ لديه ما يشغله ، ولم يكن يتوقع أن تطول المدة كثيراً لكي يحصل على رأي البروفسور بالبحث الذي أعده ، والنتيجة التي توصّل إليها لمعمل الإسمنت ، فكان توقعه في غير محله ، لقد طالت المدة ، آه ، فأوقات الانتظار يشعر بها المرء أنها طويلة ، وخاصة عند أهمية المنتظر ، إنها حالة نفسية . في أثناء مروره في أحد ممرات مبنى الجامعة ، صادف البروفيسور فكتور ، حيّاه ووقف يكلمه ، ولكنه لم يسأله عن بحثه ، حيث وجد أنه ليس من المستحسن فعل ذلك ، ولكن أثلجت صدره عبارة قالها له : أحسنت يامكسيم ، واعتلته البهجة وهو ناجح ، قالها البروفيسور ومشى . عندما كان خارجاً من قاعة المحاضرات في آخر محاضرة له في هذا الأسبوع ، أخذ يتحدث مع زميله آدم عن موضوع المحاضرة التي تناولت أثر الغابات في امتصاص غاز الكربون المنبعث في الهواء ، واستمر الحديث حتى دخولهما قاعة المطالعة . لقد استرسل في الحديث عن هذا البحث ، فهو يفكر به كثيراً ، ويريد أن يجد منتجاً صناعياً أو يصل إلى أي منتج ، وبأي طريقة ، يمتص الغازات الضارة . في نهاية الحديث وجّه مكسيم الدعوة لصديقه آدم لزيارته في القرية ، والاستمتاع بعطلة نهاية الأسبوع في بيئة طبيعية جميلة ونظيفة ، فاتفقا على ذلك .
في القرية ، وعندما كانت والدة مكسيم تتابع من خلال جوالها مشاهدة صور لابنة شقيقتها الصغيرة والتي وصلتها منذ بعض الوقت عبر الواتس ، كان مكسيم يستعد مع زميله آدم للقيام بجولة في مزرعته بعدما وصل القرية منذ بعض الوقت ، حيث كان مكسيم قد طور المزرعة وأعاد إليها حيويتها ، ورفدها بأصناف جديدة من كل شيء . قبل خروجهما بقليل ، قدم لصديقه كأساً من الحليب ، وبعد أن تناوله أحس بطعمه المتميز عن الحليب الذي اعتاد تناوله من الأسواق ، سأله عن مصدر الحليب ، فأخبره بأنه من إنتاج مزرعته ، وسأله عن سر الطعم المميز فشرح له وبين له أن الفضل يعود لثمار شجرة الخروب التي يقدم ثمارها علفاً لأبقاره ، فتعطي للحليب تلك النكهة . سأله آدم عن تلك الشجرة ، فأخذ يخبره عنها وعن فوائدها ووميزاتها . وصلا إلى المزرعة سيراً على الأقدام ، كونها قريبة ، برفقة الكلب الذي قدمه له خاله غاندي ، وهو من النوع المميز الذي يشبه الذئب في شكله ، ولونه يتدرج بين درجات اللون البني والترابي ، فكان يتقدمهما دائما كونه يعلم أن الشخص المرافق لمكسيم ضيف زائر في المزرعة . اطّلع آدم على الحظائر وخم الدجاج ، وشاهد بعضاً من الطيور التي تتواجد هناك ، وتجول في الحقل بين تلك الأشجار المتنوعة ، وبين تلك المساكب المزروعة بالورود ، فكان يستنشق عبيرها ، ويستغرق في جمال منظرها . لقد أعجبته إحدى الورود ، فوقف عندها طويلاً ، وسأل مكسيم عنها ، فشرح له كامل قصتها وكيف أحضرتها والدته وهما يتابعان جولتهما .
كان الكلب حاضراً دوماً ، وكأنه ينتظر أمراً لينفّذه ، كان آدم ينظر إليه ليشاهد حركاته التي تعبر عن اهتمامه به على ما يعتقد ، توقف آدم عند خلايا النحل ، فللمرة الأولى يراها على أرض الواقع ، فكان ينظر إلى تلك الحشرة بتمعن ، راقبها كيف كانت تقف على الزهرة فتأخذ الرحيق منها ، متنقلة من زهرة لأخرى بتأنٍّ ومن دون أن تترك أي أثر . قارن بين تلك الحشرة والإنسان ، فتعجب من فعلها على عكس الإنسان الذي لا يحصل على شيء مفيد إلا و يترك من مخلفاته ما يوازي أو يزيد من أضرار تلحق بالبيئة من تلك الفوائد التي يحصل عليها ، ثم ردد : ليته يتعلم من تلك الحشرة ، وخاطب مكسيم قائلاً : علينا أن نجعل من هذه النحلة شعاراً نرفعه ونعمل به ، فنوفر الكثير الكثير ، فأيده وقال : نحن الذين نختص بعلم البيئة نرى مالا يراه الآخرون ، لذلك فمن واجبنا تقديم النصح والإرشاد ، وإيجاد الحلول للمشاكل البيئية ، كما يفعل الطبيب لحماية الإنسان من الأمراض . في أثناء تجوالهما عرض مكسيم على آدم فكرة زيارة الغابة فلاقت القبول ، وبدل العودة إلى المنزل اتجها نحو الغابة ، وكانت وسيلتهما إلى هناك الجرار الزراعي ، فهي التجربة الأولى لآدم في ركوب الجرار الزراعي ، لذلك لم تفارق الضحكة محياه طوال الطريق ، إنه شيء مختلف والمختلف دائماً مرغوب ، ليس لدينا فقط بل لدى كل الشعوب ، حتى لو كان سيئاً في بعض الأحيان . وصلا الغابة ، أطفأ مكسيم محرك الجرار فساد الهدوء ، وبدأ يشرح لصديقه عن تلك الغابة ، وهما يتجولان فيها ، وخاصة عن شجرة الخرّوب . لقد كان آدم مسروراً جداً وهو يتجول فيها برفقة صديقه مكسيم ، لكنه كان يشعر بشيء من الخوف لأنه لم يتعود ارتياد أمكنة كهذا المكان . لأول مرة
في حياته يدخل إلى أعماق الغابة ، وشعر بالخوف أكثر عندما سمع صوتاً غريباً لم يألفه ، ولا يعلم لأي كائن يعود . لاحظ مكسيم علامات الخوف على صديقه ، وخاصة عندما كانت أذنيه تشنّف باتجاه مصدر الصوت ، نظر إليه وهو يبتسم ، ثم قال له : إنه الثعلب ، هذا صوت الثعلب ، وتابع يقول : لو جاء شيريخان معنا لكان قد أسكته . شاهد آدم بعض الطيور التي تتنقل بين أشجار الغابة ، وسمع تغريداتها المختلفة ، فكان يسأل مكسيم عن كل شيء يلاحظه ، وعن أي صوت يسمعه . مع غروب الشمس ، أدار مكسيم محرك الجرار الذي امتطاه برفقة صديقه متجها إلى القرية ، فكان هديره يملأ الأمكنة التي يعبرها في طريق عودته . في البيت وعندما انتهى من تناول طعام العشاء مع صديقه ، والذي أعدته لهما والدته ، سألته : هل شاهدت ملايكة ؟، فقال لها : وهل عادت جدتي إلى الحياة ؟!! ردت : ملايكة بنت كريستين؟، فقال : لا لم أرها . فقدمت له الجوال الذي كانت تنظر إلى صورتها فيه وهي تقول : انظر كم هي جميلة ، تشبه والدتها كثيراً . بعد أن نظر مكسيم إلى الصورة قال : ما أجملها ، ثم تابع حديثه مع آدم . انتهت عطلة نهاية الأسبوع وعاد مكسيم إلى جامعته ، بعدما اطمأن بأن خاله غاندي سيتدبر أمر مزرعته ، بينما آدم وبعدما عاد من زيارته لقرية
مكسيم راح يحدّث والده عن رحلته الفريدة المميزة ، وأسهب في الحديث عن تلك الوردة الزكية الرائحة ، فكانت جل أسئلة والده عنها ، لكونه يعمل في تجارة العطور ، حيث تبادر إلى ذهنه في أن يحدّث صديقه صاحب منشأة تقطير الورود عنها ، لعله يجد صنفاً آخر من العطور من خلالها . في الجامعة جلس البروفيسور فكتور يفكر فيما أبدعه مكسيم بشأن موضوع غبار معمل الإسمنت ، وقال في سره : ياله من عبقري ، كيف وردت إلى ذهنه تلك الأفكار ، هل يتعامل مع الجن ؟، وتساءل : لماذا لم تخطر ببالي تلك الأفكار ، علماً أنني كنت أرى والدتي عندما كانت تريد كنس المساحة الخالية أمام المنزل فترشّ الماء أولاً لكي لا يتطاير الغبار . شعر في داخله بشيء من الغيرة ، فكان يردد في ذهنه : ما يزال طالباً وهذا تفكيره ، فكيف به بعد تخرجه وتقدمه في بحور العلم ؟!!، إنه عبقري فعلاً . قبل أن ينهي مكسيم عامه الثالث في الجامعة ، كان والد صديقه آدم يعرض موضوع الوردة على صاحب منشأة تقطير الورود ، فطلب منه أن يحضر كمية منها للمعاينة والتجربة ، وكان سعيداً جداً عندما لاقت فكرته القبول ، وكان آدم سعيداً أكثر عندما أبلغه والده بما حصل معه ، فوجد آدم أن انتظاره لمدة أسبوع كي يرى صديقه مكسيم ليخبره بذلك ، هي مدة طويلة فكان الهاتف الجوال الوسيلة المناسبة لاختصار الزمن ، ولنقل الأخبار السارة بسرعة . تفاجأ مكسيم عندما سمع الخبر ، وأبدى ترحيباً
طيباً من أجل حضور والد آدم للحصول على العينات في أي وقت يراه مناسباً . بدأت تراوده أحلام الحصول على عطر جديد ، يكون هو السبب في إيجاده ، فلم يكن للصبر لديه مكان ، ولا يحب أن يضيع الوقت ، فاختصار الزمن في مثل تلك الأعمال أمر في غاية الأهمية ، لذلك اصطحب ابنه آدم في أول فرصة سنحت له واتجه إلى قرية مكسيم ليحضر كميات من الوردة تكفي لإجراء الاختبارات المطلوبة ، ولدى حضورهما ، وعندما علمت والدة مكسيم بما حصل اعتلتها الفرحة ، فهي من أحضر تلك الوردة ، وقد كلّفها ذلك ثمناً مرتفعاً ، بسببها فقدت جوالها الغالي الثمن . بعد زيارة لم تكن بالطويلة ولا بالقصيرة ، حمل والد آدم ما أراد من كميات كافية من أزهار تلك الوردة عائداً إلى منشأة صديقه الذي بدت عليه علامات الإعجاب والتأييد لما طرحه والد آدم عندما شاهد الوردة واشتم رائحتها ، فقال: فعلاً إنها رائحة مميزة . بعد أن تحسسها بيده وتناول واحدة منها أشار إلى أحد العمال من أجل إجراء المطلوب ، وأعطى التوجيهات اللازمة ، ومن ثم دخل مع صديقه أبي آدم إلى مكتب الإدارة يتابعان الحديث عن باقي التفاصيل في القرية .
كانت أم مكسيم تتحدث مع زوجها عن الوردة ، وتتضرع إلى الله كي يلقى المشروع النجاح ، لتستقيل من العمل ، وتعمل في مزرعتهم ، وتبقى إلى جانب زوجها ، فكان أبو مكسيم يردد : إن شاء الله . غادر راجيف - العامل في المزرعة لدى مكسيم - القرية مسافراً إلى موطنه الذي تركه منذ مدة طويلة ، لقد كبر في السنّ ولم يعد قادراً على العمل كما كان في شبابه ، حيث حضر منذ زمن ويريد العودة إلى وطنه ليقيم بين أهله بقية عمره ، بعد غربة باع فيها شبابه ليبني حياة أبنابه . فما كان من مكسيم سوى أنه استقدم عاملاً من الجنسية نفسها ، ولكنه متعلم أكثر ولديه إلمام بالتعامل مع الآلات والمعدات الكهربائية والميكانيكية ، ويستطيع قيادة السيارة والدراجات بكافة أنواعها ، لكنه لم يكن يتقن لغتهم ، فبقي يعتمد على الإشارات إلى أن تعلم بعض العبارات الضرورية . أوكل مكسيم أمر إدارة شؤون المزرعة إلى خاله ، ليتفرغ لدراسته فلم يعد يتدخل بموضوع الحظائر ، والزراعة وخلايا النحل ، وتربية الدجاج وبعض الطيور النادرة . في منشأة العطور ، كان أبو آدم يتابع ويلاحق نتائج الاختبارات خطوة بخطوة ، فكان ملازماً لصديقه صاحب المنشأة طيلة تلك الفترة ، وكان استعجاله يقابل بهدوء من الطرف الآخر ، وعندما سأله عن السبب أجابه : (مابدنا نخسر شوفتك) ، ضحك أبو أدم وقال : معك حق .
كان مكسيم في كل مرة يشاهد فيها ذلك اللهب المتصاعد من المصفاة يتأثر كثيراً ، وتتراءى له الأضرار الناجمة عنها وعن أمثالها في العالم أجمع ، ويتساءل : ما الفائدة من كل تلك الاجتماعات ، و الندوات ، و المحاضرات ، و المقررات ، من أجل الاحتباس الحراري وثقب الأوزون ، الأمرين اللذين كانا يشغلانه كثيراً ، فقد كان يستجمع المعلومات التي تتعلق بهما منذ مدة ، بالإضافة لما هو مقرر في الجامعة . وأخيراً ظهرت نتائج الاختبارات في منشأة العطور ، حضر أبو آدم كي يعلم النتيجة ، لأن صديقه لا يريد إبلاغه بها عبر الهاتف أو الجوال ، ولا بد أن يكون حاظراً أمامه . تبددت علامات الاستفهام التي اعتلت وجه أبي آدم عندما علم بإيجابية النتائج ، وعلم أنه أصبح بإمكانه إنتاج أصناف مميزة وجديدة من العطور . جلسا يخططان ويبحثان كيفية سلوك الطريق لإنتاج المربح المريح ، فالتخطيط الجيد والصحيح هو الطريق إلى النجاح المستمر ، فكانت الخطوات الأولى للمشروع مصدر الوردة و مكان إنتاجها وكمياتها . إذاً قرية مكسيم ومزرعته أولاً ، وقد أوكلت تلك المهمة إلى أبي آدم . في الجامعة بدأ مكسيم يستجمع المعلومات المتعلقة ببحثه ، بالإضافة لما كان قد حصل عليه في أوقات سابقة ، وما هو موجود في مقرراته الجامعية ، يعلم أنه موضوع شاق وشائك وأنه يشغل كل المسؤولين في العالم ، وعلى رأسهم رؤساء الدول وأهل الاختصاص من العلماء ، والمنظمات ، والهيئات الموكّلة بهذا الموضوع ، ويدرك أيضاً أنه سيعمل
كثيراً ليصل إلى نتيجة ، وعلم مبكّراً أنه مهما بذل من الجهد والعناء والكلفة في حال وصوله إلى نتيجة لن يكون خاسراً ، فحرارة الأرض موضوع يتعلق بوجود البشرية كلها ، لذلك كان بحثه شاملاً لكل من يعمل في هذا المجال ، ولكل العوامل التي تتعلق به . عندما علم آدم بنتيجة الاختبارات التي تتعلق بالوردة من والده ، كان أول ما فعله هو الاتصال بمكسيم عبر الجوال ليبلغه النتيجة ، ويطلب منه الاستعداد للقادم من الأمر كما أخبره والده ، ألا وهو الإنتاج الوفير منها . أثناء الاتصال كان مكسيم بمنزله في القرية ، وإلى جواره والدته ، والتي سمعت كل المحادثة وفهمت أغلب المضمون . إذاً العمل القادم يحتاج إلى جهد أكبر و تواجد دائم ، وبدأت الأفكار تغزو مخيلتها ، لدرجة أنها وجدت نفسها في حلم من أحلام اليقظة ، فرأت نفسها تسير في حقل من الورود المتفتحة ، ولم تنتبه إلى مكسيم عندما كلّمها بعد انتهاء المحادثة ، حتى نبهها مكرراً عبارة : ماما ماما . ثم تابع حديثه وسألها عما يدور في خلدها لدرجة أنها لم تنتبه إليه عندما ناداها ، أخبرته بما كانت تحلم به ، وأبدت رغبتها في العمل بالمشروع بدل الوظيفة ، فأيدها ، سألته : متى يكون ذلك ؟، فقال : قريباً ، هكذا فهمت من صديقي آدم . لم يغب عن بال مكسيم أنه مازال طالباً ، وأن من يلتقي بهم ويناقشهم هم أساتذته وعلى رأسهم الدكتور فكتور ، فكان هذا الأمر يدفعه لبذل جهد أكبر في الحصول على المعلومات التي تجعله يدير النقاش ويستوعب مفرداته ، فلكل مرتبة من العلم مفرداتها حتى ولوكانت من الاختصاص نفسه .
فقد لاحظ البروفيسور فكتور ذلك وخاصة وجود تميز في المعلومات التي يقدمها مكسيم ، ودقة الأسئلة التي يطرحها ، فظن أنه يعد لأمر هام . حاول استدراجه لمعرفة مكنونات صدره فلم يفلح ، لقد كان مكسيم حريصاً كل الحرص على هدفه ، ويريد أن يكون السبّاق لما يصبو إليه ، فكان يحافظ على كل مايقع بين يديه بشكل آمن ويدون كل ما تسمعه أذنيه ، بالإضافة إلى اختزانه في ذاكرته حتى لا يغيب عن باله . كان حريصاً كل الحرص من بعض من كان يظن أَنهم يتربصون به ، حيث عمل بمقولة سمعها يوما ما ، لم يكن يحفظها بحذافيرها ، ولكن بما تعنيه ، وهي أنه من ظن السوء بالناس من أجل تفادي الضرر ليس عيباً . فعلاً كانت خطوات المشروع سريعة ، فلم يتأخر حضور أبي آدم إلى قرية مكسيم لمرات عدة ، كان من نتائجها الاتفاق على كل المطلوب ، وما على مكسيم سوى المباشرة ، فاستقالت والدته من عملها استعداداً للعمل بالمشروع الذي كانت السبب في وجوده ، فلم يعد لديها في الشركة سوى سنوات قليلة . عاد مكسيم إلى جامعته بعدما أنهى كل الترتيبات للبدء بمشروعه ، فكان لخاله الفضل الأكبر في ذلك ، إنها الخبرة ، فقد مرّ بتجارب عديدة اكتسب منها الكثير . لاحظ زملاء مكسيم أن لديه حالة خاصة ، وخاصة اهتمامه بالمراجع والنت وكثرة لقاءاته بالأساتذة ، فكانوا يقولون عنه : (مفزلك) ، وخاصة أنهم يعلمون بأنه طالب متفوق ، لقد كان يلاحظ ذلك ، ولكن لم يكن يهتم بالأمر
كثيراً و كان يتجاهل لأنه يتصرف تصرف العقلاء ؛ فالابتعاد عن الأمر السيء ليس بالأمر السيء . بعد مدّة وجيزة عاد إلى القرية في زيارة قصيرة ، هناك التقى بوالدته التي كانت قد استقالت من عملها لتتفرغ للعمل في المشروع الجديد ، فبشائره قد لاحت بكل معالمها . شرحت له الفرق بين عملها الحر في المزرعة في مشاتل الورود ، وبين عملها السابق ، وعن حسنات العمل الحالي من الناحية الصحية والنفسية ، والذي بدا واضحاً على قسمات وجهها ، فهي لم تعد بحاجة إلى أحمر الشفاه ولا لغيره من المكياجات ، ولم تعد تشعر بالإجهاد عندما تستيقظ باكراً ، ولم تعد تحتاج إلى سيارة في تنقلاتها كما كان في أثناء عملها السابق الذي أوقعها في فخ الاتكال والروتين المقيت ، حيث اكتشفت أَنها كانت لا تشبه فيه سوى عقارب الساعة ، كلما تقدمت عادت إلى نقطة البداية ، وتساءلت : لماذا لم أكن أدرك ذلك . لقد أصبح مكسيم في سنته الدراسية الرابعة ، وفي هذه المرحلة كان قد قدّم للأسواق منتجاً جديداً من منتجاته توصل إليه بالتعاون مع خاله غاندي ، هذا المنتج لم يسبقه إليه أحد ، حليب متعدد النكهات ، فكما يوجد عسل متنوع النكهات ، أصبح يوجد حليب متنوع النكهات ، حليب الخروب ، حليب الملفوف ، حليب السبانخ . لاقى هذا المنتج رواجاً كبيراً ، مما كان حافزاً على زيادة الإنتاج ، فكثرت وتوسعت وتطورت المعدات والأدوات ، وتمت الاستعانة بعاملين جدد للعمل في الحظائر ، حتى غدت المزرعة من المشاريع النموذجية الرائعة . إنها أفكار مكسيم ، لقد عكس علمه وفكره في عمله ، فقد أوجد طرقاً جديدة لتقديم العلف ، ووسائل مريحة لجمع الروث ، وطرقاً سهلة للنظافة
والتخلص من المخلفات الضارة ، وأوجد وسائل متميزة في التعبئة والتغليف ، ونماذج من العبوات المختلفة الأحجام ، حتى العاملين أوجد لهم نظام مراقبة وتدريب مستمر ، والمدير غاندي العقل المدبر ، عرف مهمته وأدرك ماهيتها ، فلم يكن يدع شاردة أو واردة تفوته ، فهو يعلم أَنه لابد من توافر المميزات الشخصية في المسؤول ، وهي الحزم والإرادة والصبر ، وقوة التحمل أهمها بالإضافة إلى المعرفة . في الجامعة كان مكسيم يلتقي بزملائه من أصحاب الاختصاصات الأخرى في الهندسة والطب ، والزراعة والمعلومات ، معظمهم كان يسأله : لماذا اخترت هذا الفرع من العلوم ؟، فكان لا يكلّ ولا يملّ وهو يشرح لهم مجالات هذا الصنف من العلوم ، حتى أنه كان يكرر ذلك في الجلسة نفسها ، وكان يستمع إلى أحاديثهم ، فيجد فيها المتعة والفائدة . في إحدى المرّات استرعى انتباهه حديث أحدهم عن أسباب امتناعه عن تناول الأسماك عازياً ذلك إلى التلوث ، فقد كان يتحدث عن المخلفات التي تلقى في البحار والمحيطات و أخطرها المخلفات الإشعاعية والبترولية ، وقال : أخر مرة تناولت فيها السمك كان بطعم المازوت . وزميل آخر حدثهم عن المزروعات التي تروى من أقنية الصرف الصحي والتي معظمها يأتي من المشافي القريبة الموجدة في تلك المنطقة . أوحت له تلك الأحاديث بأن يبعث رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ، يقدم فيها بعض المقترحات المفيدة في مجال البيئة لناحية خفض التلوث . إنها أفكار جديدة ، هكذا يرى فيها لعلها تلقى الاهتمام من المنظمات المعنية في تلك الهيئات الدولية و التي تعنى بالشؤون الإنسانية ، ولم يتأخر في فعل ذلك . أعجب بالطابع الذي ألصقه على الرسالة في
مكتب البريد عندما حضر ليبعث الرسالة ، فقد كانت صورة الطابع تحمل صورة لأزهار النعناع البري ، فللونين الأخضر والنهدي لهذه النبتة ميزاتهما الملفتة للناظر ، وأيضاً للأزهار المترادفة و المتتابعة في أعلى الغصن بهجتها وجمالها لقد بدا تكاثفها واضحاً لناحية زيادة مساحة الألوان فيها ، مما زاد من جمالية الطابع ، فاشترى أعداداً ليحتفظ بها ، وبلغت درجة تأثره بها لدرجة أنه أحسّ برائحة النعناع وهو يدسها في محفظته ، وتذكر حينها الغابة ، حيث تتواجد وتنمو فيها هذه النبتة . نظراً لتفوقه وتميزه في نشاطه البيئي واهتمامه الدائم بالبيئة ، اختير ليكون أحد أفراد رحلة بحرية أكاديمية مع عدد من المختصين في مجال علوم البيئة ، رحلة خطط لها من قبل المعهد الأكاديمي للعلوم البحرية بإشراف حكوميّ ، فأخذ يستعد لها منذ تبليغه الموعد . في أحد مخابر الكلية ، كان يجري التجارب على بعض الشجيرات التي أحضرها من أجل الوصول إلى طريقة جديدة ومفيدة لتوليد الأوكسجين الطبيعي ، وامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون . كان يمضي جل وقته في المختبر للقيام بالمطلوب وتسجيل الملاحظات ، فيجلس بقرب شجيرة الخروب طويلاً ويقارن بينها وبين قطع الفحم الصغيرة من حيث الأضرار والفوائد ، ويتذكر قريته وكل من فيها ، لكون تلك الشجرة من غابة القرية ، وذلك الفحم من بقايا ما صنعه والده . انقطع عن زيارة القرية ليتفرغ لهذه المهمة ، فاقتصر اتصاله بأهله في القرية عبر الهاتف و الجوال ، وبالأخص مع والدته وخاله . على الرغم من أنه
بقي لديه سنة دراسية أخرى قبل التخرج من الجامعة ، فقد كان يفكر كثيراً فيما بعد التخرج ، ويتساءل : هل يتابع تحصيله العلمي ، أم يكتفي وينصرف إلى العمل؟. اقترب موعد الرحلة البحرية ، ولم يعد يفصله عنها سوى بضعة أيام ، فكان تواصله مع أساتذته في الكلية مستمراً طوال تلك المدة التي تسبق الموعد المحدد للسفر ، الأمر الذي كان ينتظره بفارغ الصبر ، كما انتظار العاشق لمحبوبته ، وفي الوقت نفسه شغل باله والده ، فهو رجل طاعن في السن تجاوز من العمر الثمانين إضافة لكونه مريضاً . بينما كان يجلس في شقته ، يبحث في كتبه ويحضر لرحلته ، فالوقت المقرر لانطلاق الرحلة بات قريباً ، رنّ جرس جواله ، رد على الاتصال ، إنه خاله غاندي الذي أخبره بنقل والده إلى مشفى الأمل بحالة إسعافية حرجة . ترك كل ماكان بين يديه وخرج مسرعاً قاصداً المشفى ، وصلها بعد وصول والده إليها بقليل ، وهناك وجد والدته وقد غمرها الحزن ، والدموع تملأ عينيها وهي منكّسة الرأس ، علم عندها أن والده قد توفّي ، فاحتضنها وأخذ يهدئ من روعها و يواسيها . كان أبو مكسيم قد تجاوز الثمانين من العمر ، وكي يقوم مكسيم بما يتوجب عليه ، اعتذر عن الرحلة البحرية ، وعمل على القيام بمراسم الدفن . جرت مراسم الدفن وفقاً للمعتاد ، ووفقاً للتقاليد المتعارف عليها والقواعد المقررة شرعاً ، أقام بعدها بضعة أيام في القرية ، ثم غادرها عائداً إلى جامعته . لقد أدرك أن حزنه وانكفاءه لن يفيداه في شيء ، وعلم أن لكل حيّ أجله مهما طالت به الأيام ، إنها رحلة محتومة لكل كائن حيّ ، لا بل
حتى كل شيء يموت ، ولكن كل بطريقته وتوقيته ، وأخذ يتساءل عن سر وفاة والده بهذا التوقيت ، الأمر الذي حرمه من رحلة كانت ستغير مجرى حياته ، وقد لا تتكرر . كان مكسيم مرجعاً لزملائه في الكلية ، يسألونه عن كل مايعترضهم ، ومنهم صديقته بريانكا ، تلك الصبية المفعمة بالحيوية والذكاء ، والمميزة بجمالها أيضاً . كانت تلجأ إليه للمساعدة باستمرار ، ليس للعلم فقط وإنما لإعجابها به أيضاً ، فكانت تسأله عن كل كلمة تكتبها ، وعن كل معلومة تحصل عليها ، فموضوعها هام ، إنه عن الأوزون وأثره على الطبيعة والإنسان ، وعن أسباب النقص الذي يتعرّض له ، وما هو تأثير البراكين و التجارب النووية ، والغازات المنبعثة كالنتروجين والكلور في ذلك ، وأيضاً تلك الأشعة فوق البنفسجية . أعجب مكسيم بالبحث كثيراً ، لذلك كان اهتمامه به واضحاً ، فهذا هو ما يشغله ويعمل عليه ولكن بشكل أوسع وأشمل ، لأنه في حال الوصول إلى نتيجة ، ستكون الفائدة كبيرة جداً ، وستنعكس على البشرية جمعاء . كانت جلساته مع بريانكا تطول كثيراً ، وأحياناً تبقى في شقته حتى صباح اليوم التالي عندما تتأخر في السهر . في المختبر لاحظ مكسيم اصفرار أوراق الشجرة وذبولها ، فتدخل وقدّم لها الإسعافات الأولية بهدف إنقاذها فلم يفلح ، لقد ماتت فاضطر إلى إحضار البديل من النوع نفسه والمكان أيضاً ، من غابة قريتهم ، وأما الشجرة التي تيبست فقد جعل منها عملاً فنيّاً ، فأعاد الحياة إليها بطريقة أخرى . سبحان الله ، حتى الكائنات الأخرى تموت ، والدول تموت أيضاً ،
فكم من دولة أزيلت عن الوجود ، أين الاتحاد السوفييتي ، وأين يوغسلافيا ، وأين ألمانيا الشرقية ، دول اختفت ماتت ، لا بل وتحاسب كما يحاسب الإنسان ، فالإنسان قد يذهب إلى الجنة أو النار بحسب عمله ، والأشجار أيضاً كذلك ، فمنها ما يُحرق ومنها ما يحوّل إلى أعمال فنيّة ، وتصبح مقتنيات للعظماء والملوك والأغنياء والمشاهير ، فكم من عصاة أشهر من عصاة سيدنا موسى عليه السلام ؟، وهي ليست سوى غصن يابس من شجرة ، وكذلك تلك المقتنيات المنزلية من المفروشات الرائعة ليست سوى جذوع أشجار ماتت أو قتلت . اتصل خاله غاندي ليخبره بأن أحد التجار عرض عليه زراعة النعناع البري وإنتاجه بشكل متواصل وكميات كبيرة ، وأنه على استعداد لاستلام كامل الكميات التي يصار إلى إنتاجها ، فوعده بدراسة الأمر وإبلاغه بالنتيجة من دون أي تأخير . وبعد انتهاء المكالمة ، وقف عند كلمة النعناع البري ، وأخذ يرددها على شفتيه ، وعلى مهل ، نعنع بري ، نعنع بري ، ثم قال : نعم نعم الطوابع ، طابع البريد الذي يحمل صورة النعناع البري ، تذكر الطابع عندما حضر إلى مكتب البريد وأرسل رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة . اقترب موعد الامتحانات ، فأحسّ مكسيم أنه سينقضي العام الدراسي من دون أن يصل إلى نتيجة من تجربته ، وقد لا يتاح له متابعتها بعد مغادرته الجامعة لقضاء العطلة ، لم يستطع فعل شيء للإسراع فلا بدّ من أن تأخذ التجربة الوقت المطلوب ، فما كان منه إلا الانتظار والمتابعة أياً كانت الظروف .
وجهت له بر يانكا الدعوة لزيارتها في بلدها هذا العام ، فهي فتاة أجنبية جاءت تدرس هذا الاختصاص ببعثة رسمية من حكومتها ، و ستعود أثناء العطلة في زيارة لأهلها . وعدها بتلبية الدعوة ، على أن يتفقا على الموعد وما يترتب عليهما فعله لقاء تلك الزيارة ، وخلال حديثه معها سألها عن المسافة التي تفصلهما عن موطنها ، والظروف المناخية لبلدها في مثل هذا التوقيت من العام ، وعن العادات والتقاليد ، وختم حديثه بأن وجه لها الدعوة لزيارته في القرية قبل سفرهما ، بعدما يتم الانتهاء من تقديم الامتحانات ، فوعدته بذلك . في الوقت الذي توفي فيه والده ، وعندما كان يتلقى التعازي بوفاته و يقوم بما يتوجب من مراسم الدفن ، كانت قد انطلقت الرحلة البحرية ، وكان في قلب الغواصة مجموعة من الأكادميين المختصين ، فكل منهم تنعّم بما رآه في أعماق البحار ، مشاهد لأول مرة تتاح لهم مشاهدتها بشكل مباشر ، كائنات بحرية غريبة و جغرافيا مدهشة . عندما سمع البروفيسور فكتور الجواب على سؤاله من قبل قائد الغواصة عن العمق الذي يبحرون فيه ، انتابه شيء من الخوف ، وفكر فيما لو تعرضت الغواصة لعطل ما ، ماذا سيحصل لهم ؟. استفاق من شروده وعاد للحديث مع زملائه ، حوارات ومناقشات عدة دارت بين الحاضرين ، أرعبهم منظر لسمكة القرش وهم ينظرون إليها من خلال النوافذ الخاصة ، وهي تفتح ثغرها ، فكانت أنيابها مثل بوابات جهنم كما يسمعون عنها . التقى مكسيم ببريانكا مجدداً ، فأخذت رأيه بموضوعات عدة ، و خاصة فيما يتعلق ببحثها الأخير ، ومما سألته : المسافة التي تبعد فيها
طبقة الأوزون عن الأرض ، وعن تاريخ اكتشاف تلك الطبقة ، وهل هي من ضروريات البحث ؟. أثنى عليها بما تفكر به ، وأكد لها أن ذلك من أولويات البحث وضرورياته ، فهي معلومات هامة وقيّمة . قدّم لها المعلومات المطلوبة لكونه كان قد حصل عليها سابقاً لاهتمامه بالموضوع نفسه ، فقال لها : إن المسافة هي مابين ثلاثين وخمسين كيلو متراً ، وبسماكة مابين 2-8 كم ، أما تاريخ اكتشاف طبقة الأوزون فيعود إلى عام 1913 ، وقد تم ذلك بفضل العالمين شارل وهنري . أعجبت بتلك المعلومات التي قدمها لها ، وسعدت بها ، لأنها أغنت بحثها . شكرته على ماقام به ، فسألها عن استعدادها للامتحانات ، بعدما أثنى عليها للجهد المميز الذي قدمته لأجل البحث ، فأكدت له استعدادها التام ، وعندما سألته السؤال نفسه سمعت الجواب نفسه ، لكنه شكا لها بعض الأمور البسيطة التي حصلت معه نتيجة وفاة والده ، فترحمت عليه ، وقالت له : إذاً لديّ فرصة في الحصول على المرتبة الأولى هذه السنة ، فأجاب : على مايبدو . عادت الغواصة بمن أقلعت بهم بسلام ، وقد عادوا محملين بما اختزنته ذواكرهم وبما دونته أقلامهم ، وبعد أن انصرف كلّ منهم إلى عمله كانت جلّ أحاديثهم تقتصر على تلك الرحلة ، وعلى ما جرى فيها مع من يجالسونهم من الناس ، ومن بينهم مكسيم الذي تمنى لو أن الأقدار أعطته الفرصة ليكون أحد أفراد تلك الرحلة . تكثّفت لقاءات مكسيم ببريانكا قبل الامتحانات وبعدها ، وتكررت زيارتها له في شقته ، وأحياناً كانت تبقى عنده في الشقة لليوم التالي .
بخوف ، وخاصة عندما كان يقترب منها ، لم تعتد على مثل هذا الحيوان الأليف ، فطمأنها مكسيم عندما شعر بأنها خائفة ، وشرح لها بأن حركاته تعبر عن ترحيبه بها ، وقال لها : حتى الحيوانات تحتاج إلى مترجم لمن لا يفهم حركاتها . في المزرعة شاهدت ما أنجزه مكسيم ، أسعدها اجتهاده وخاصة أنه أنجز تلك المشاريع أثناء دراسته وبجهوده ، فهي تعلم أنه مثابر وصاحب عقل مبدع وإرادة قويّة ، وقد أعجبتها مساكب الورد كثيراً . لقد عادت من المزرعة سعيدة ومسرورة ، وهي تفكر فيما ستفعله في اليوم التالي ، فالمخطط زيارة الغابة أيضاً ، وفعلاً كانت وجهتهما إلى الغابة ، ولم تكن في هذه المرة وسيلتهما إلى هناك الجرار الزراعي ، وإنما سيارة الجيب ذات الدفع الرباعي التي اشتراها حديثاً . كانت حذرة جداً وقدمها تطأ أرض الغابة ، أمكنة لأول مرة تلجها ، فلم تشأ الابتعاد عن مكسيم ولاذت به طوال الوقت ، شاهدت ما يشبه المسلّة منثوراً على الأرض ، سألت مكسيم عنه فأخبرها بأنه ريش حيوان القنفذ أحد سكان الغابة ، و شاهدت أيضاً أشجار الخرّوب وثمارها المتدلية التي تشبه قرون الماعز حيث كان مكسيم يحدثها عن جهوده في زراعتها ، فقطفت إحداها وحملتها مع بعض ريَش القنفذ التي التقطها لإعجابها بها . بعد جولة شملت معالم الغابة ، عادا إلى المنزل تغمرهما السعادة حيث كانت والدته بانتظارهما لتناول طعام الغداء الذي أعدته خصيصاً لهذه المناسبة . في أثناء تناولهم للغداء كانت نظرات أم مكسيم لا تقع إلا على بريانكا ، وأكثرت من الأسئلة التي وجهتها له عنها ، وأشارت له بعيداً عن أنظارها بخطبتها ، فهي مستعجلة تريد زواج ابنها الوحيد ، ورأت أنها لن تجد أفضل منها زوجة لمكسيم .
بعد انتهاء الغداء ، وبعدما ذهبت بريانكا لتغسل يديها ، أخبر مكسيم والدته بأنها لاتدين بديانتهم ، فردت عليه : لا يهم فالدين لله والحب لادين له سوى الوصال ، وتابعت ، لا تدع كل هذا الحسن والجمال يفلت من بين يديك ، ابتسم وقال : حسناً حسناً . أحست بريانكا عندما عادت بأن والدته تحدثه عنها لأنها لم تحرّك شفتيها بعد حضورها ، فنظرت إلى مكسيم وابتسمت ثم قالت : والدتك مسرورة ، فأجابها : بوجودك معنا و بيننا . حضر خاله أيضاً ، فرحبا به ، وفي آخر أيام الزيارة قامت بريانكا بجولة ، تجولت من خلالها في أرجاء القرية واطّلعت على معالمها و شاهدت الكثير من الناس فكان بعضهم ينظر إليها بتعجب فهي حضرت إلى القرية باللباس المعتمد في بلدها ، تسوقت بعض الأشياء التي أعجبتها من محلات القرية ، وخاصة الصناعات التقليدية الشعبية ، من مثل الأدوات الخشبية المنزلية وسلال القصب المميزة ، أشياء تراثية تريد أن تأخذ بعضاً منها إلى بلدها . بعد انتهاء الزيارة عادت إلى المدينة استعداداً للسفر ، خاصة و أن مكسيم سيرافقها في هذه المرة ، وعندما كانت تتحدث معه في أثناء عودتهما بسيارة الجيب من القرية سألته عن والدته ، وأبدت إعجابها بها ، فقال لها : وهي أيضاً أعجبت بك ، لا بل .. ثم صمت ، فقالت له : لا بل ، ماذا ؟، فقال : لاشيء لاشيء...، وبعد إلحاح منها ليبوح بما تردد في قوله ، تساءل في ذهنه للحظات ثم خاطبها قائلا : لقد طلبت مني أن أتزوجك ، تبسمت بعد أن سمعت كلامه وقالت : والدتك صاحبة نظرة مميزة ثم ضحكا معاً وراحت تردد : تتزوجني إذاً ؟!. تحدثا أيضاً عن سفرهما الذي بات قريباً جداً ،
فعلم أنها قامت بكامل الأمور المطلوبة من تذاكر السفر ، و شراء الهدايا ، وأنها أنهت كل ما يتعلق بأمور الجامعة ، وكذلك فعل مكسيم . وبعد أن وصلا المدينة استراح مكسيم لبعض الوقت ، ثم قام بجولة في المدينة ، تسوق بعض الأشياء التي يحتاجها وأقفل عائداً إلى قريته بانتظار لحظة السفر إلى بلد بريانكا ، الذي بات محدداً ، بعد بضعة أيام فقط . فعندما حان موعد السفر إلى موطن بريانكا شعر أن الأيام مضت مسرعة ، كان يتوقع أنه لايزال لديه الكثير من الوقت ، فعندما كانت تبلغه الموعد ظن أنها تمازحه ، لم يجد نفسه إلا والطائرة قد أقلعت بهما . هو سيقضي بضعة أيام ومن ثم سيعود ، وبريانكا ستبقى إلى حين انقضاء العطلة وبدء عام دراسي جديد ، خلال الرحلة كان ينظر من نافذة الطائرة ، من السماء إلى الأرض ، فأحياناً يرى اللون الأزرق وأحياناً يرى الغيوم المتراكمة ، وكأنها سجادة فرشت تحت الطائرة ، ثم نظر إلى الأعلى عساه يرى الأوزون الذي اقترب منه بعد أن ارتفعت به الطائرة عن سطح الأرض . صادف مرور طائرة أخرى بعكس اتجاه الطائرة التي يستقلانها ، فقال لها : انظري كم هي سريعة ، فقالت : بالتأكيد ستبدو سريعة جداً ، فطائرتان تسيران بعكس الاتجاه ستكون المسافة المقطوعة في زمن أقل وستكون السرعة مضاعفة ، سألته : أين يذهب غاز الكربون المنبعث في قلب الطائرة ، إننا نعيش بها وكأننا على الأرض ، على الرغم من أنها مغلقة بإحكام ومعزولة عن الخارج ؟! ، فقال : بالتأكيد إن نظام التهوية فيها يسمح بخروجه بطريقة ما ، فصناعة الطائرة من أعقد الصناعات وأدقّها .
خلال الحديث بدأت الطائرة تهتز ، شعر الركاب بالخوف ، وخاصة عندما ازدادت تلك الاهتزازات وتكررت بشكل أقوى ، فقامت المضيفة وأخذت تتحدث إليهم وطمأنتهم بأن ذلك يحدث عادة في بعض المناطق ، حيث يوجد ما يسمى المطبات الهوائية ، وهذا أمر عادي ، ومن ثم تابعت ، قليلاً ونجتاز المنطقة ، فقالت بريانكا : الحمد لله ظننت أن عطلاً قد أصابها . بقي الصمت والوجوم مسيطراً على ركاب الطائرة إلى أن اجتازت الطائرة تلك المنطقة بسلام . لاحظ مكسيم الفرق بين حالة المرء عندما يكون في خطر ، وحالته عندما يكون في رخاء وهناء ، حيث أن ركوب الطائرة يرى فيه البعض نوعاً من الخطورة . وصلا المطار ليلاً ، حيث أنه يقع في المدينة التي تسكنها بريانكا ، كان والدها من أغنياء المدينة ، فقد خصص لمكسيم فيلّا يقيم فيها طيلة أيام الزيارة . أحس مكسيم بالحرج والارتباك بعض الشيء عندما حضر جميع أفراد أسرتها لاستقبالهما في المطار ، وذلك لسببين ، الأول ما تبيّن له من حالتهم المعيشيّة ، والثاني العادات والتقاليد المختلفة في كل شيء من اللباس وحتى العلاقات الشخصية والعائلية ، رغم أنها كانت قد حدثته عن تلك الأشياء . في اليوم الأول للزيارة التقى بكامل أفراد العائلة ، فلدى بريانكا شقيقتان أصغر سنّاً منها ، وشقيق أكبر منها سنّاً ، وآخر أصغر لايزال صبيّاً . في أحد الأيام قدم لزيارتهم شاب كان الوجوم باد على محياه ، فنظراته وتقاسيم وجهه تعبر عما يدور بداخله ، وخاصة وهو يشعل سيجارته وينفث سحب الدخان منها ، والتي لم تكن تفارق شفتيه ، فمن خلال علبة
السجائر تلك يتبين أنها من أفخر التبوغ وأغلاها ثمناً ، لباسه وتسريحة شعره وساعة يده ، و الخاتم الماسيّ في بنصره تدل على أنه من أسرة ثريّة . علم مكسيم من خلال بريانكا أن هذا الشاب معجب بها ، وأنه توجد علاقة ما بينهما ، وأن وجوده معها أزعجه جداً ، ولكنه لم يهتم لهذا الأمر وتابع أيام زيارته بفرح وسعادة . اطّلع خلال الزيارة على معالم المدينة ، ولم يلحظ فيها ما يعيبها سوى ذلك القطار الذي يعبرها صباح مساء ، راسماً خطاً أسوداً من الدخان بمكان مروره ، فكان يبقى لبعض الوقت ثم يتبدد في فضاء المدينة . أعجب بعاداتهم وتقاليدهم ، حضر بعض الحفلات ومنها حفلة عرس ، وزار أسواق المدينة وأعجب أيضاً بالتحف التي تتم صناعتها ، وخاصة الخشبية منها ، فاشترى ما أعجبه أكثر ، واشترى لوالدته بعض القطع القماشية الجميلة ، ولم ينسَ خاله غاندي ، فقد أحضر له قبعة من القش جميلة ومريحة ستحميه من أشعة الشمس وهو يتنقل بين مساكب الورد في فصل الصيف . عاد مكسيم من الزيارة مثقلاً بكرم الضيافة ، والهدايا التي اشتراها والتي قدمتها له بريانكا أيضاً ، لقد فوجئ بتسديد تذكرة الطائرة من قِبَلها أثناء عودته . بعد وصوله عائداً إلى بلده كانت جل أحاديثه عن تلك الزيارة ، فكان إضافة إلى ما يقوله لزواره ، يعرض عليهم بعض صور فيديو التقطها عبر جواله سجل فيها أجمل ما رأته عيناه هناك . بعد أن شاهدت والدته أحد عروض الفيديو ، بدت من خلاله بريانكا وكأنها ملكة جمال العالم ، عادت وطرحت على مكسيم فكرة الارتباط بها . فكر في عرض والدته ولم يكن يخطر بباله هذا الموضوع ، فهو لايزال طالباً ، ولديه الشيء الكثير الذي يجب عليه فعله قبل الزواج ، لأن الزواج مسؤولية
وله متطلباته فهو عادة يأتي بداية للاستقرار وختام التشرد ، وهو عالم أخر ، سرّ لا يكتشف إلا بالتجربة ، فلم يجب والدته بشيء ، وعلمت من تأملاته بعد سؤالها مادلّ على أنه جواب لها ، وهو أنه لا يفكر بالزواج حالياً . وضع كأس الكابتشينو بعد أن شربها كاملة مضافاً إليها الحليب ، واتجه إلى مساكب الورد ، وبينما كان يتنقل بين تلك المساكب تذكر تجربته التي فشلت ، ولم يصل من خلالها إلى مبتغاه ، وتساءل بينه وبين نفسه عن أسباب فشل التجربة ، وتساءل أيضاً هل سيعاودها مرة أخرى؟ . عاد من مساكب الورد واستقلّ سيارته متجهاً إلى معمل الألبان ليتفقد إنتاجه الجديد من قوالب الزبدة . في بلدها دخلت بريانكا في جدال مع ساراس ، الشاب الذي شاهده مكسيم في أثناء الزيارة ، فهو معجب بها ويرغب بالزواج منها ، فمعظم مادار في حديثهما حول الشاب مكسيم ، ومدى علاقتها به ، وسبب زيارته لها . ذكّرها ساراس بحبه لها ، و وعدها و عهدها له عندما سافرت للدراسة في الخارج ، كادت أن تنتهي علاقتهما في هذه الجلسة ، فغيرة ساراس واضحة ولكن حبها له وتفهمها لغيرته أبقت الأمور في مسارها ، و مما هدّأ من غيظه وغيرته أنها عادت وأكدت له حبها وأنها ما تزال عند وعدها ، عرض عليها الارتباط حالاً فلم توافق ، وفضلت أن يكون ذلك بعد التخرج والانتهاء من الدراسة أيضاً ، وذكّرته أَنه لايزال طالباً ، وأمامه عاماً كاملاً ليصبح طبيباً ، ونصحته أن يختص بالطب النفسي ، فسألها إن كانت تعاني من مرض نفسي ما..؟؟
فقالت : لأجلك. رد عليها : الحب أليس كذلك؟ لم تجب ، فقال هو : بالتأكيد إنه الحب ، ثم تابع ، إنه الداء الذي لا يحب أحد أن يشفى منه ، فهو داء لكنه دواء لكل داء . أجابت : نعم أيها الفيلسوف ، هات أعطني سيجارة ، فتناول علبة التبغ ثم أخرج منها سيجارة أشعلها وقدمها لها ، كانت تنظر إليه وهي تعض بشفتيها على عقب السيجارة ثم تنفث الدخان في وجهه ، يالها من طريقة حسنة للتدخين.. ! ، قال وهو ينظر إليها ، ثم أمسك يدها وخرجا في نزهة ، وأخذ يحدثها عن السيارة التي اشتراها ، وعن الفيلا التي بناها . طال مكوثهما في مقهى الأحلام السعيدة ، إنه مكان جميل ومريح تلفه الأشجار وتغلفه ، ويجري في منتصفه جدول ماء عذب ، وتجتاحه نسائم الهواء من دون توقف ، والورود والأزهار في كل مكان منه ، وقد أضاف الديكور المميز ومفروشات المقهى الفاخرة جمالاً لذلك المكان ، فجاء الاسم على مسمى ، فعلاً إنه مقهى الأحلام السعيدة . بعد اللقاء أجرت بريانكا مقارنة بين مكسيم وساراس ، فتمنت لو أنه يشبهه في سعة الصدر وطول البال ، وقالت : يالهما من نعمة لمن يرزقه الله بهما ، وأول من يجب أن يتمتع بهما هو الطبيب ، فعلى ألسنة الناس عبارة تتردد دائماً : ( طولة البال من الرحمن ) ، أي أنها صفات حسنة ومفيدة جداً . على الرغم من كل ما جرى لم تكن غيرته تزعجها ، إن النساء عالم غريب ، غيرته جعلتها تتمسك به أكثر ، فأكثر الناس تنظر
إلى الغيرة على أَنها ضرب من ضروب الحماقة ، وخاصة المتحضرين منهم ، أمّا لدى النساء فإنها أمر آخر . كان مكسيم في قريته ، يعيد في مخيلته ويتذكر تجربته التي فشلت ، لكي يحدد أسباب الفشل و يعاودها متفادياً تلك الأسباب ، و هذا مايتوجب على الإنسان الناجح فعله ، فعاود رسم الخطوات التي قام بها على الورق . أولاً يريد أن يعلم لماذا لم يحالفه الحظ ولم تنجح التجربة ، نعم لابد من الحظ أو شيء منه كي يلقى المرء النجاح في أي عمل يقوم به ، وبدون الحظ ستكون النتائج مخيّبة ، هكذا رأى ، وأخذ يتساءل عن الحظ ، ولماذا يحالف المرء أحياناً وأحياناً يخالفه؟؟. وعندما أعاد النظر ليكتشف أسباب فشلها لم يجد سبباً مقنعاً ، فقد اتبع كل الخطوات المطلوبة ، فأيقن أَنه قام بها في وقت لم يكن فيه الحظ حليفه ، وتمنّى أن يكون الحظ حليفه في مشروعه الأهم الذي بدأه منذ مدة طويلة ، ولا يعلم متى ينتهي منه بسبب تشعّبه وأهميته ، وسيكون فيه الفائدة للبشرية جمعاء فيما لو وصل إلى نتيجة وفق ما يريد وما يسعى إليه في إحدى المرات . وعندما كان يتواصل مع بريانكا عبر الواتس أبلغته عمّا جرى بينها وبين ساراس بحذافيره ، فأيقن أن شعورها تجاهه شعور صداقة ، وليس هو الشخص الذي تفكر بالارتباط به بصفته زوجاً لها ، وإنما هو زميل دراسة وصديق فقط ، ووجد أن من جملة الأسباب التي دعته فيها لزيارتها في بلدها هي إثارة من يحبها ولو لم تقصد ذلك ، فكثير من الفتيات يفعلن الأمر نفسه وخاصة الجميلات منهن .
كان مكسيم في كل مرة بعد تواصله مع بريانكا يرددعبارة : ما أطيب قلب والدتي وأبسطها !!، لدرجة ظنت فيها أَنه لما أتمتع به من رشاقة جسم ، وإشراقه فكر ، وبعض من الممتلكات ، قد يكون سبباً في الحصول على أيّ فتاة أرغب بها لتكون شريكة حياتي ومنهن بريانكا ، نعم إن ذلك ممكن لإقامة علاقة عابرة ، وقد لا يكون العكس بالرغم من أَنه احتمال ، وهذا ما لمسته واكتشفته بنفسي . من خلال حديثها معه كانت قد سألته عن تجربته التي كان يتابعها في مختبر الجامعة ، والتي علمت منه فيما سبق أَنها فشلت ، وفيما إذا كان سيعاودها ؟؟ ، فأخبرها أنه قام بالبحث عن أسباب عدم نجاحها ، وأنه لم يجد سوى الحظ الذي لم يكن حليفه ، وعندما سمعت منه هذا التسويغ ، قالت له : انتظر الحظ إذاً ، وأعد التجربة بالظروف والمراحل نفسها ، وشجعته على ذلك فأكد لها بأنه سيفعل ما نصحته به ، ولكن لن يكرر الأمور نفسها التي قام بها سابقاً ، فقالت له : في التجارب العلمية لا يصل المرء إلى نتيجة من المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة ، وليس من الصحيح تسمية عدم الوصول إلى نتيجة من المرة الأولى إخفاقاً ، الإخفاق يكون في نهاية المطاف . بعد أن أنهى محادثته مع بريانكا ، جلس بمفرده شارد الذهن يفكر بما قالته له ، وفعلاً فإنه لأي إنجاز علمي أو غيره محاولات عديدة ، ولا يمكن أن نحكم بالإخفاق أو النجاح إلا في النهاية . حاول مكسيم ، قبل بدء العام الدراسي الأخير له في الجامعة ، تطوير بعض خطوط الإنتاج لديه لإيجاد أصناف جديدة من منتجاته ، فكثّف
جهوده ، وقام بمراسلة شركات عدة متخصصة ، وبعد أن تلقى العروض قام بدراستها ليختار الأفضل له ، فوجد أن جميع العروض تتجاوز مقدرته الشرائية ، فتكلفتها باهظة ، لذلك كان قراره تأجيل الموضوع والتوجه نحو التوسع بزراعة الورود للحصول على مبالغ مالية أكبر . في يوم صيفي جميل ، كان مكسيم يجلس على شرفة المنزل المطلّة على الغابة يتنعم بالهواء النقي المفعم بالأوكسجين و يستبدله بما يخرج من جسده عبر رئتيه من غاز الكربون كما يفعل الناس عندما يخرجون في نزهة إلى الطبيعة لغسل أجسامهم وبالأخص قلوبهم ، فكم من رحلة إلى غابة أو سرير نهر أو غدير ماء أغنت صاحبها عن زيارة الطبيب ، إذ يعود المرء مرتاح البال خالياً من الهموم وبالتالي سليم النفس و الجسد . عندما كان مكسيم يهمّ بالدخول إلى غرفة نومه ، وعندما أشاح بنظره من نافذة الغرفة شاهد من بعيد دخاناً يتصاعد من الغابة ، أخذ يراقبه فكان يزداد كثافة وحجماً ، ومن ثم بدأت تظهر من خلاله ألسنة اللهب ، لقد تأكد أنه حريق وخاصة بعدما وصلت رائحته إلى أنوف أهالي القرية ، فاتصل بمركز الإطفاء وأبلغهم بالحادثة فجاء حضورهم سريعاً ، وكان لذلك الأثر الإيجابي في سرعة السيطرة على الحريق وإخماده قبل أن يكبر ويتسع . حضر مكسيم مع بعض أهالي القرية إلى مكان الحريق للقيام بما يمكن فعله والاطلاع على ما جرى ، لقد آلمته تلك المناظر التي بدت له وخاصة تلك الأشجار العالية التي تحولت إلى ما يشبه الأشباح التي كان يشاهدها في الأفلام السينمائية ، لقد كان يلفها السواد
وأيضاً كان لايزال يوجد بقايا لهب متصاعد في المكان ، حيث كان يسمع صوت حسيسه وهو يتلوّى عندما تتلاعب به النسمات العابرة ، فيصار إلى إخماده . لقد كان لتعاون أهل القرية الأثر الطيب في المساعدة لإخماد الحريق ، الذي تبين فيما بعد أن سببه استهتار أحد المارين من هناك ، من خلال إلقائه بقايا سيجارة مشتعلة ، وكان مكسيم يتجول بين الحاضرين فيستمع إلى بعض التعليقات و التساؤلات حول إمكانية فعل ذلك من بقايا سيجارة ، فكان يجيبهم بالتأكيد ، وأنه على المرء عدم الاستهتار أو التقليل من شأن الأمور الصغيرة ، فيمكن لذرة أن تغيّر المجرّة ، ولحشرة أن تسقط طائرة ، وشعرة أن تقسم ظهر البعير ؛ مثل مشهور: الشعرة التي قصمت ظهر البعير؟ . بدأ العام الدراسي ، وأخيراً أصبح مكسيم في السنة الأخيرة ، سنة تحقيق الحلم ، فكّر في أن يحضر والدته لتسكن إلى جواره في المدينة بعدما توفي والده ، فيكون في ذلك فوائد للجهتين ، هو يطمئن عليها ، وهي تساعده في الأمور المنزلية ، لكنها رفضت الفكرة ، وفضّلت البقاء في القرية إلى جوار شقيقها غاندي ، كي تتابع العمل في المزرعة وخاصة مساكب الورد ، فرحل مكسيم إلى المدينة وحيداً كما كان يحصل في كل سنة . كانت بريانكا قد عادت إلى الجامعة أيضاً ، واستأجرت شقة في حيّ آخر غير الحيّ الذي كانت تسكنه عادة ، الشقة الجديدة قريبة من الكلية التي تدرس فيها ولم تعد تحتاج إلى وسيلة نقل للذهاب من الجامعة وإليها ، لا بل أصبح من المتاح لها الحضور إليها خلال المحاضرات ، فكان أول ما فعله مكسيم بعد أن غادر القرية تاركاً والدته بجوار شقيقها ،
أَنه قام بزيارة بريانكا وهنّأها بعودتها سالمة ، وقدّم لها سلة غذائية تحتوي جميع ماينتجه من أصناف ، كالعسل والجبن واللبن ، بالإضافة إلى هدية رمزية بمناسبة تفوقها في السنة الرابعة ونيلها المرتبة الأولى ، فترك هذا التصرف الأثر الطيب لديها . علم مكسيم من الدارسين والمتخرجين قبله في هذا الاختصاص أن السنة الأخيرة تعتمد بالدرجة الأولى على البحث والتجربة والمعاينة ، الأمر الذي يحبه ويفضله ، ويعمل به ، وأن ذلك سيفيده في الموضوع المتعلق بحرارة الأرض ، الذي يتابعه منذ مدة طويلة ، وسيخلق له الفرصة للبحث أكثر . بعد أن تحركت عجلات العام الدراسي إلى الأمام ، كانت محركاته لاتهدأ ، يحضر المحاضرات ويقوم بالزيارات ، ويلتقي بالزملاء والأساتذة ، ويحضر الندوات والمؤتمرات ، وقد لاحظ البروفيسور فكتور أن مكسيم يحضّر لشيء ما يتعلق باختصاصه ، فكان يوجه له بعض الأسئلة التي تحمل نوعاً من الإدراك العلمي في الاختصاص علّه يستخرج ما في مكنونات سرّه فلم يفلح ، حيث كان مكسيم أكثر حرصاً ، فهو يريد أن يحافظ على سريّة عمله وهدفه لينعم بالإنجاز المنشود . في أحد الحوارات سأله عن تجربته التي فشلت ، فقال مكسيم لم يحالفني الحظ فيها . لم تلق تلك الكلمات الاستحسان لدى البروفيسور ، حيث تبين ذلك من الكلمات التي خاطبه بها ، حيث قال له : أنت المتعلم المثقف تعتمد على الحظ بدل أن تعتمد على العوامل والظروف؟!. توسّع النقاش وشارك
فيه معظم المتواجدين من الأساتذة والطلاب ، فكان من وقف إلى جانب مكسيم العدد الأقل ، وظن من هم في الطرف الآخر أن الموضوع حسمت نتيجته لصالحهم ، ولكن عندما قدم لهم مكسيم برهاناً لا يمكن نقضه أو إثبات عكسه على أن الحظ أحياناً يكون السبب الوحيد في إخفاق عمل ما أو نجاحه ، قلب نتيجة النقاش ، وكانت علامات الخسارة واضحة على وجوههم من خلال الوجوم الذي أصابهم ، وخاصة الدكتور فكتور ، الذي بقي يكابر متمسكاً برأيه من دون أن يقدم مايؤيد وجهة نظره . بعدها أخليت القاعة وانصرف معظم الموجودين فيها ، إلا البروفيسور فكتور والدكتور جان ، نظر الدكتور فكتور مليّاً وكأن عينيه قد تسمرت على الحائط القريب ، ثم خاطب جان قائلاً : كم هو محظوظ هذا الشقيّ ، يقصد مكسيم ، فضحك الدكتور جان ، عندها علم البروفيسور فكتور أَنه قد زلّ لسانه ، وأدرك المعنى الحقيقي لزلة اللسان ، وأن على المرء أن يكون حذراً أكثر عندما يتحدث وعليه إدراك أثر الكلمة ، فقد تكلّفه غالياً ، وقد تكلفه حياته أحياناً . فكّر مكسيم برجل الدين ابراهام ، وتمنّى لو أَنه مازال حيّاً ليسأله عن موضوع الحظ ، فهو لايعرف رجل دين غيره ممن يثق بهم ، فرجال الدين عادة يعلمون بهذه الأمور أكثر من غيرهم ، حتى ولو كانوا من علماء الفلك ، فلم يجد أمامه سوى شبكة النت ، علّه يجد فيها ما يصبو إليه ، فتناول جواله وأخذ يبحث ، فوجد معلومات ليست بالقليلة ، منها
مايطابق فكره ، ومنها مالم يكن يخطر بباله ، فوجد أن موضوع الحظ ورد في بعض الكتب السماوية ومن بينها القرآن الكريم . بدأت الغيرة والحسد من مكسيم تكبران في صدر البروفيسور فكتور ، فلم يكن يتقبّل أن طالباً يمكنه أن يتميز عنه ، وأنه استطاع إيجاد شيء جديد في مجال العلم الذي اختص به وخاصة أَنه من طلابه ، فكان مكسٌم قد لمس ذلك من خلال بعض العبارات التي تحمل هذا المضمون , وخاصة عندما يتوجه إليه ببعض الأسئلة ، فكان مكسيم يرد بالجواب المناسب ، فعندما كان يسأله : كيف حظك اليوم؟ ، كان يجيب بعبارات يقصدها فمرة يقول مثل الدولار ، ومرة يقول مثل الذهب، ومرة مثل السكر . في إحدى الجلسات بين مكسيم وبريانكا ، أخذت تحدثه عن ساراس ، وعن غيرته وأحياناً حماقته ، ومما قالته : أنها كم تتمنى أن يكون مثله في الصبر وسعة الصدر ، فرد عليها : أنتن النساء لايناسبكن إلا نموذج ساراس وأكبر دليل تعلقك به ، وأكثر مايغيظ المرأة في الرجل هدوءه ورحابة صدره ، فهي تتمناه رياحاً عاتية ، وأمواجاً عالية ، حتى لو اقتلعتها من جذورها ، لم توافقه على ماسمعت منه ، فكان ردها : إن معظم الرجال ينظرون إلى المرأة مهما علا شأنها على أَنها طبق شهيّ يتناوله عندما يكون جائعاً ، ينظرون إلى المرأة من الناحية الجنسية فقط ، وليس ككائن بشري من الناحية الفكرية والوجود الإنساني ، رد عليها وأكد لها أنه ليس من هؤلاء ، ولم ينكر ما سمعه منها . تابعا الحديث عن المواضيع المتعلقة باختصاصهما ، فكثرة أسئلتها المتعلقة بالبحث الذي يتابعه مكسيم ويعمل لأجله ، حتى ظنّ أَنها تريد الوصول إلى معرفة سرّ ما
منه فكان حذراً في الحديث معها حول بحثه ، فعلى المرء أن يكون حذراً من أقرب الناس إليه في الأمور الهامة ، فلا صداقة تدوم إلى الأبد ولا خصام ، فكما أَنه من الممكن أن يتغير معنى الكلمة بحركة أو نقطة ، فمن الممكن أن تغير كلمة مجرى أية علاقة حتى لدى العقلاء . في إحدى المحاضرات العلمية التي تناولت وحدة قياس الأوزون ، أخبرهم البروفيسور المحاضر أَنه ستقام رحلات ميدانية للاطلاع على بعض الأماكن التي أصابها التلوث في العالم بإشراف من منظمة دولية مختصة في هذا المجال ، وستكون الرحلة الأولى إلى أوكرانيا ، حيث يوجد مفاعل تشرنوبل الشهير ، والرحلة الثانية ستكون إلى زامبيا للاطلاع على أماكن استخراج الرصاص ، والثالثة إلى أذربيجان للاطلاع على أماكن الصناعات الكيميائية ، أكثر المناطق تلوثاً في العالم ، وأبلغهم بالبرنامج المعد لكل رحلة ، وأنه تم التنسيق مع كافة المنظمات الدولية التي لها علاقة بالموضوع لأجل ذلك ، وأنه تم أيضاً تحديد توقيت كل رحلة ، وحدد العدد المسموح به لكل رحلة أيضاً ، ولم يبق سوى اختيار الأشخاص ، وسيتم ذلك بالتنسيق مع إدارة الجامعة ، وطلب من الطلبة الراغبين بالاشتراك التواصل معه ، وأملى عليهم البريد الإلكتروني لمن ٌيريد الاشتراك . كانت بريانكا أَول طالبة تبدي رغبتها في الفوز بإحدى الرحل على الرغم من خطورتها ، وكان مكسيم من الذين فعلوا ذلك ، وبعد أن أبدى رغبته تمنى أن تتم الرحلة بسلام حيث تذكر ماحصل معه في الرحلة البحرية التي حرم منها بسبب وفاة والده ، وخاف على والدته في هذه المرة من أن يصيبها مكروه ، وخاصة ما تعرفه عن المفاعل تشيرنوبل ، وعن الآثار الضارة التي تركها ، فتذكرت ما كانت تتناقله
شاشات التلفزة في حينه ، فترحمت على الطيارين اللذين لقيا حتفهما وهما يقومان بواجبهما للسيطرة على المفاعل بعد الانفجار الذي لحق به ، ثم جلست تتحدث مع مكسيم علّها تنجح في ثنيه عن هذه الرحلة ، لكن جهودها باءت بالفشل . كان إصراره واضحاً وعزيمته أكثر قوة ، فأخذ يعدّ العدّة و يستعد كل الاستعداد لها ، وقام بكل الإجراءات المطلوبة ، خاصة وأن اسمه بالقائمة الأولى للمقبولين في الرحلة الأولى مع صديقته بريانكا ، التي أرسلت إلى ساراس تبلغه بما فعلت ، فاعتبر أن مشاركتها في هذه الرحلة فيه نوع من التهور . يومين فقط وتقلع بهم الطائرة التي ستقلّهم إلى أوكرانيا وهم مابين ، حلم يغمر مخيلتهم ينتظرون تحقيقه ليروا أثر فعل الإنسان في الطبيعة والتلوث الذي يتسبب به وخاصة التلوث الإشعاعي و الذي يترك آثاراً مدمرة وعلى مسافة زمنية طويلة وجغرافية واسعة ، وخوف من مخاطر قد تصيبهم . فجأة حدث مالم يكن بالحسبان ، لقد ألغيت الرحلة ، فكان الوجوم سيد الموقف و لا أحد يعلم السبب ، كان ذلك بمنزلة الصدمة لمكسيم ، إنها المرة الثانية التي يحرم فيها من تحقيق بعض أحلامه . عندما علم ساراس بهذا الخبر من بريانكا شعرت بشماتته من خلال حديثه معها وخاصة أنه لم يكن موافقاً على اشتراكها بتلك الرحلة ، فعندما أقفلت الخط قالت : ياله من أحمق ، وتساءلت كيف سيمارس الطب وهو بهذه الصفة الكريهة و المقيتة؟! ، وأخذت تندب حظها العاثر الذي اعتبرته السبب وراء إلغاء الرحلة ، وتساءلت أيضاً عن سرّ تعلقها به على الرغم من معرفتها ببعض طباعه المزعجة . أما مكسيم فكان يعتقد أن المخاطر الكبيرة التي تحيط بتلك الأماكن هي السبب في ذلك ، إضافة
إلى سقوط تلك الطائرة التي كانت تقلّ على متنها عدداً لابأس به من الركاب ، وهي من النوع نفسه للطائرة التي كانوا سيسافرون على متنها إلى أوكرانيا . عندما علمت والدته بما جرى معه و أن الرحلة قد ألغيت ، شعرت بالراحة بالرغم من كل التطمينات التي كان مكسيم قد بيّنها لها . لم تكن ترغب في أن يكون ابنها الوحيد أحد أفراد هذه الرحلة ، وقالت في ذهنها : حدث ذلك لأني لم أكن راضية عن مشاركته وسفره . بعد إلغاء الرحلة انصرف الطلاب إلى دروسهم ومنهم مكسيم ، إنها السنة الأخيرة ويريد أن يجتازها بسلام فلم يكن يتأخر عن حضور أي محاضرة ، ولم يتقاعس عن أي واجب أو عمل يتعلق بدراسته ، خاصة و أنه اختار متابعة مشواره العلمي والبحثي ، فقد اتخذ قراره وحدد خياره ، وهو سيتابع دراساته في الماجستير والدكتوراه ، فتفوقه يسمح له بذلك . كان خاله غاندي ينتظر تخرجه بفارغ الصبر ليعود ويتابع شؤون مزرعته ومشاريعه ، وكان يعد الأيام المتبقية له للتخرج من الجامعة ، فهو لديه عمل آخر يريد القيام به ، وكان عمله لدى مكسيم مؤقتاً ، لكنه فوجئ بطلبه الاستمرار بإدارة مشاريعه إلى ما بعد التخرج ، وهذا ما لم يكن في حسبانه ، الأمر الذي جعله يعدّ مراجعة لكامل أوضاعه و يعيد حساباته ، فلم يكن يرغب بالتمديد قط بالرغم من العوائد التي حققها ، فعلاقته الجيدة بمكسيم أسهمت باستمراره في العمل لديه ، وقرابته وقربه منه ، خاصة وأن المدة الزمنية ليست بالطويلة ، فلم يتبقى لتخرّج مكسيم الكثير من الوقت .
تفرّغ مكسيم للدراسة ، ولم يعد يتدخل في أي عمل يتعلّق بالمزرعة ، فخاله يديرها ويتدبر أمرها ، ووالدته تتابع عملها في مساكب الورود ، والتي ازدادت وتوسعت نتيجة الطلب المتزايد عليها ، فكان يقضي جلّ وقته في الجامعة ، يبحث عن المراجع ويلتقي بالأساتذة المختصين ، وزملائه المتفوقين وأولهم بريانكا التي سيفتقدها قريباً ، فكما مضت سنوات عدة لابد وأن تمضي تلك الأشهر المتبقية . حضّرا معاً للامتحان ، حتى أن بريانكا كانت تمدّه ببعض المعلومات التي يبحث عنها والتي تتعلق بالبحث الذي يعمل لأجله بعدما علمت موضوعه ، وأحياناً تستعين بساراس عبر الجوال في حال كان الأمر يتعلق بمواضيع طبية ، أي لناحية انعكاس العوامل على الصحة سلباً أو إيجاباً ، من مثل تأثير استنشاق الغازات الضارة على جسم الإنسان ، وتأثير الغبار على الصحة أو العكس ، ومدى سلامة الجسم في البيئة النظيفة . كان غاندي يتخذ كل القرارات التي تتعلق بشؤون مشاريع مكسيم في القرية و حتى الهامة منها ، وكان يتصرف بالأموال حسبما يراه واجباً لمتطلبات العمل ، يوزع العمال ويصرفم وفقاً لمتطلبات العمل ويبيع المنتوجات للزبائن وفق مايجده مناسباً ، ولم يكن يخبره عن أي شيء إلا عند الضرورة القصوى أو في حال سؤاله ، وكل ذلك كي لايشغل باله بأي شيء ينعكس على دراسته ، إذ لم يتبق للاختبار في المواد البحثية، أي الجزء العملي منها ، سوى بضعة أيام . كان مكسيم يلتقي بزملائه في الجامعة من خلال الاجتماعات والاستراحات ، فمن خلال أحاديثهم ومداولاتهم دائماً كانوا يتذكرون
السنة الأولى عندما دخلوا الجامعة لأول مرة ، وكيف كانت أحوالهم وقتها ، وكيف أصبحوا الآن !! ، إنه الزمن . احتاج مكسيم إلى مبلغ من المال ، فقصد البنك ليقوم بسحبه من رصيده ، وكان متخوفاً من أن لا يتوافر المبلغ المطلوب ، ولكنه فوجىء بأن لديه مبالغ كبيرة ، فقال في نفسه : إنه خاله غاندي ، بالتأكيد يكون قد عقد صفقة هامة . حصل على المبلغ وعاد إلى شقته ، حاول الاتصال بخاله ليسأله عن مصدر الأموال ولكن انشغاله ببعض الأمور التي أنجزها لدى حضوره صرفت ذهنه عن الموضوع ونسيه ، وخاصة زيارة بريانكا له ، والتي حدثته عن البروفيسور فكتور حيث أخبرته أَنه سيسافر إلى دولة خليجية للتدريس في إحدى الجامعات الحكومية مقابل مبالغ ضخمة ، فقال مكسيم : الحمد لله أنه بقي حتى وصلنا إلى أبواب التخرج ، و إن سفره خسارة لهذه الجامعة ، فقالت بريانكا : ومكسب لتلك الجامعة ، ردّ عليها قائلاً : بكل تأكيد . عندما كان جالساً في مقهى الجامعة يحتسي فنجاناً من القهوة وبيده جواله يبحث عن رقم لصديق له يريد التحدث إليه ، ظهر اسم خاله غاندي من بين الأسماء ، فتذكر موضوع المبالغ المالية فاتصل به على الفور ، وسأله : فكانت المفاجأة عندما علم أن معظم تلك المبالغ كانت من فعل والدته . لم يخطر بباله ولم يكن يتوقع ذلك ، وأخذ يتساءل من أين
أتت بتلك الأموال بعد أن حاول الاتصال بها لسؤالها ومعرفة مصدر المال ، لكنه تراجع وقال أحدثها عندما أذهب إلى القرية . كبرت الأشجار التي زرعها مكسيم في أرض المصفاة وترعرعت وأصبحت كالغابة ، فأينما يتجول المرء هناك يري اللون الأخضر في فصل الصيف ، هي المكان المفضّل لاستراحة العمال ، فتراهم منتشرين تحت ظلالها في أثناء الاستراحة ، وعلى رأسهم السيد أبو فرح الذي لم يكن يوفر أي فرصة ليذكرهم أن ذلك بفضل ابن صديقه وعلى يديه ، حتى بعد أن أصبح متقاعداً ، عندما يكون زائراً للمزرعة . عندما كان مكسيم في قاعة الامتحان يمعن النظر في ورقة الإجابة للتأكد من المعلومات التي أجاب فيها على كامل الأسئلة ، وبينما كان يرفع رأسه ، وإذ بالبروفيسور فكتور يقف بجانبه ، كان في جولة تفقديّة وداعيّة . لقد أعدّ كل شيء للسفر ، فأراد التجول في الجامعة مودعاً ، هكذا يفعل معظم الناس ، يتباركون بأماكن الإقامة التي أحبوها قبل مغادرتها ولو مؤقتاً ، هكذا فعلت بريانكا لم يبق لها سوى أيام و سترحل بعدما انتهت من تقديم امتحاناتها . لقد اتفقت مع مكسيم على الإقامة لديه في القرية بضعة أيام قبل العودة إلى بلدها ، وهي ستكون أحد أفراد الملتقى العلمي الأول الذي دعا إليه مكسيم لإقامته في قريته لبحث موضوع تأثير الكربون والأوكسجين المنبعث بفعل الإنسان والطبيعة على أرض الواقع في الجغرافيا التي عاش فيها وأسهم في إيجاد بعض معالمها ، بحيث يشمل البحث كل الأماكن ، المزرعة ومشاريعه والغاية وتمنى لو
أن البروفيسور فكتور كان بينهم ولكنه - للأسف - قد سافر ، وكان هو من الذين قاموا بوداعه . أخذت بريانكا تفكر في حياتها بعد أن تعود إلى بلدها ، وخاصة الزواج والوظيفة ، وستبقى الأيام التي قضتها في الجامعة للذكرى بحلوها ومرّها ، وخاصة عندما كانت في سنتها الدراسية الأولى ، لقد كانت شاردة الذهن وهي تحلم بتلك الأيام بحلوها ومرّها وتتساءل كيف انقضت . فعلاً ، وبعد أن شاركت في الملتقى العلمي ، لم يطل بها الوقت إلا و وجدت نفسها وهي تودّع أحبة عايشتهم وعاشرتهم ، بالأخص مكسيم الذي كان الأخ والصديق ، فكان وداعها له محزناً ، ولو أنها بادلته بعض الهدايا التذكارية وطبعت على وجنتيه قبلات لن تنساها ؛ قبلات لها طعم آخر غير طعم الحب والأخوة والصداقة ، هي أسمى من ذلك ، وعندما كان هو أيضاً يطبع قبلاته على وجنتيها التي مابرح يأنس بمشاهدتهما طيلة السنوات التي تعرّف عليها مودعاً ، فقد أحس بمعان مختلفة لهذه القبلات . كانت هذه المناسبة فرصة قدّم لها مكسيم فيها بعض الهدايا التذكارية ، و من بينها زجاجات عطر من الصنف الذي ينتج من الورود التي يقوم بزراعتها . إنها لحظات الوداع ، شعور مختلف ، وخاصة عندما يكون بين الأصدقاء ، لأن الصداقة أخوة بالإرادة وليست بالولادة . في الطائرة التي أقلّتها وهي عائدة إلى وطنها و تحمل شهادة تخرّجها ، كانت تتذكر كل يوم قضته على مقاعد الدراسة وكل ليلة سهرت فيها وهي تحضّر للامتحان ، و ها هي الآن تعود إلى أحضان الوطن لتعيش بين أهلها وذويها ، وتعمل بما تعلمته ونذرت نفسها لأجله .
تابع مكسيم دراساته العليا بعد التخرّج ، وعاد يدير مشاريعه وشؤون مزرعته فيما بعد ، وانزاح عن عاتق خاله ذلك العبء ، خاله الذي تفرغ لشؤونه الخاصة . لقد بدا واضحاً تأثير اختصاص مكسيم على عمله ، بالإضافة إلى أَنه بدأ العمل بما تعلّمه ، فكانت تقدّم له مشاريع جديدة يقوم بدراستها ، مشافٍ ، ومنشآت صناعية وزراعية ، الأمر الذي أتاح له موارد مالية طوّر فيها مشاريعه ، وزاد من إنفاقه في سبيل البحث العلمي الذي يعمل لأجله منذ زمن ، وهو يحتاج إلى مبالغ كبيرة . كان صدى خبرته وإشراق فكره يتردد على ألسنة الناس ، وخاصة الذين عرفوه وتعاملوا معه ، لقد تميّزت الأعمال التي قام بها عن أعمال الآخرين من زملائه بدقّتها وشموليتها وتفاصيل حساباتها التي لم تكن تخطر على بال غيره من المختصين ، لدرجة أن معظم الناس لم تدرك مدى أهميّة هذا الاختصاص إلا من خلاله . عندما كان جالساً يحدّث والدته عن رحلة يرغب القيام بها بصحبتها لزيارة شقيقتها وصلته رسالة عبر جواله من بريانكا ، تبدي من خلالها رغبتها في استيراد بعض من منتجاته لصالح شقيق زوجها كونه يستورد تلك المواد من الخارج ، وبعد أن أنهى مراسلته معها أبلغ والدته بمضمون المراسلة فغمرتها السعادة عندما سمعت ذلك ، وقالت له : مارأيك أن نذهب إلى بلد بريانكا بدل زيارة شقيقتي؟ ، فرحّب بالفكرة . قدِم زميله آدم لزيارته في القرية برفقة والده تاجر العطور فتبيّن له أن آدم أصبح يعمل في المجال نفسه الذي يعمل به والده ، وتبيّن أن الزيارة
هي لأجل الطلب من مكسيم زيادة كميات الورود التي تُستلم منه ، فوعده العمل ما بوسعه لتأمين المطلوب . طوّر مكسيم عمله فأوجد أصنافاً جديدة من العسل و قدّم عيّنات منها لصديقه آدم ، والتي حملها عائداً بعد زيارته لمكسيم . في صباح أحد الأيام ، وبينما كان والده يتناول فطوره المفعم بالأطباق الشهيّة ومن بينها العسل الذي قدّمه له مكسيم ، وبعد أن تذوقه و أعجب بطعمه سأل آدم عن سرّ ذلك الطعم وعن مصدر العسل ، أجابه : إسأل مكسيم فالسرّ لديه . حقاً سأله عندما سنحت له الفرصة ، فأخذ مكسيم يحدثه ويشرح له عن طريقة إنتاجه وكيفية الوصول إلى هذه النكهة الطيبة ، فأثنى عليه وتمنّى التوفيق له . عاد مكسيم لمتابعة بحثه بزخم أكبر ، فمتابعته الدراسية في الدراسات العليا للماجستير أتاحت له التعمق أكثر في علم البيئة وأصبحت معلوماته أوسع وأشمل ، وقام بزيارات ميدانية إلى بعض مواقع التلوث الشهيرة بالعالم على الرغم من معارضة والدته فزار أوكرانيا و عاين الأماكن التي يسمح الوصول فيها إلى مفاعل تشيرنوبل ، وزار أذربيجان ، وأماكن أخرى في إفريقيا ، وبعض أماكن البراكين في أوروبا ، فهو يريد تقديم شيء يتعلق بارتفاع درجة حرارة الأرض ، وكان للموضوعات التي درسها في الماجستير الانعكاس الإيجابي والدافع للإبحار أكثر والتعمق بموضوع الأوزون ، البحث الذي اعتمده لنيل درجة الدكتوراه . عندما كان يتجول في مزرعته بين مساكب الورود وحظائر القطعان المتنوعة شعر بالأسف لأنه لم يتمكن من تلبية طلب زميله آدم في زيادة كميات الورود .
كان يسير وهو يفكر بعدة أمور إلى أن وصل إلى بركة الماء الواسعة ، التي كانت تنضح بالحياة ، ففيها بعض أنواع السمك وأفراخ البط ، وبعض النباتات المائية الجميلة الأزهار ، منظر قطع تفكيره عندما وقف ينظر إليها فشعر من خلال الماء الرقراق المتدفق بطعم الأوكسجين ، المصدر الأساس للأوزون ، ومن أشعّة الشمس المتساقطة في ماء البركة تذكر الأشعة فوق البنفسجية وهي العدو الأول للطبيعة ، ومن خلال الماء تذكر الأوكسجين خط الدفاع الأول عن كل الكائنات التي تقيم على الكرة الأرضية . كان يرى في الغازات الضارة المنبعثة من الأرض ، سواء أكانت بفعل الإنسان أم من نتاج الطبيعة ، نوعاً من الخيانة للأوزون ذلك الحارس الأمين الذي لايغمض له جفن والحصن المنيع الذي لا عماد له و الموكّل بحفظ الحياة على كوكبنا . كان مكسيم ينظر إلى أشعة الشمس كثيراً ، لقد شغلت باله أكثر من أي عامل من عوامل الطبيعة في موضوع الأوكسجين والغازات الأخرى ، ورأى أنه من الممكن أن تكون الحل لكثير من المشاكل التي تتعلق بالأوكسجين والغازات الضارة ، فأخذ يفكر بأشعة الشمس التي رأى أنها الوسيلة الناجعة لنقل الغازات الضارة إلى خارج غلاف الأرض ، فكان يتساءل عن سرّ اجتياز أشعة الشمس للطبقة الشديدة البرودة ومع ذلك تنقل الحرارة إلى الأرض ، فلماذا لا يستفيد منها في الاتجاه المعاكس ؟؟ . أخذت تكبر في ذهنه تلك الفكرة ، ووجد أن الحل لمشكلة البيئة على هذا الكوكب والمحافظة على الأوزون بالنسبة لموضوع الاحتباس الحراري يكمن فيها ، وأن عليه استكشاف السر ، فمن خلالها يمكن نقل الغازات الضارة إلى خارج غلاف كوكب الأرض ، كما هي أسلاك الكهرباء في نقل الطاقة الكهربائية .
فكرة بدأت تكبر في ذهنه ، فاحتاج أن يسأل عنها أحد المختصين بعلوم الفيزياء ، وعندما سأل الدكتور المشرف على رسالة الدكتوراه التي يعمل لأجلها ، أرشده قائلا : عليك بأنشتاين ، فقال له : لقد مات أنشتاين منذ زمن ، فشرح له أن أنشتاين هو الأستاذ الأكبر الملقب بأينشتاين وهو أستاذ في كليّة العلوم و من أقدر أساتذة الفيزياء في الجامعة . من أول فرصة أتيحت له قصده ليستنير بفكره ، وليجد ضالّته من الإجابات عن الأسئلة التي تدور في خلده ، فاستطاع أن يجد جواباً لبعضها والبعض الآخر بقي دون حل ، فهي ملاحظات جديدة لم يتطرق إليها علم الفيزياء ، هذا ماقاله له أنشتاين ( غابرييل ) . عاود مكسيم اللقاء بالأستاذ غابرييل مرات عدّة ، سأله عن أمور تتعلق بالفوتونات و البروتونات و النترونات ، وسأله مكسيم عن موضوع سرعة الضوء ، وأيهما أسرع الضوء أم لمح البصر ، فتفاجأ الأستاذ غابرييل بهذا السؤال ولم يكن يخطر بباله أن هناك فرق بين سرعة الضوء وسرعة لمح البصر ، وكان لتلك اللقاءات الأثر الإيجابي في بحثه . ساعدته تلك الأفكار التي حصل عليها من البروفيسور غابرييل في الوصول إلى مدركات لم يكن ليبلغها من غير مساعدته ، بينما انشغل البروفيسور غابرييل بموضوع سرعة الضوء وسرعة لمح البصر وراح يفكر ويتساءل : هل ثمة فرق بينهما ؟!.
لم يعد موضوع مناقشة رسالة الدكتوراه بعيداً ، لذلك قام مكسيم بإجراء مراجعة شاملة لبحثه ، وأعاد حساباته بدقّة فلا مجال للخطأ ، لقد قرأ البحث صفحة صفحة وكلمة كلمة ، كان يقف عند بعض المعلومات فيعود إلى المراجع التي تتعلق بها ليتأكد من دقة ما أبدعه ، إنه اكتشاف علمي جديد سيكون له تأثير ملحوظ وهام على مشكلة العصر ، مشكلة الغازات الضارة وتأثيرها على الأوزون . لقد تمكن من الوصول إلى طريقة علمية استخدم فيها أشعة الشمس لنقل الغازات الضارة خارج الغلاف الجوي من دون أن تؤثر على الأوزون . ياله من اكتشاف لا تزال كل الهيئات والمؤسسات والمنظمات التي تعمل في هذا المجال تتوق إليه ، فكم من الاجتماعات بين الدول وقادتها لأجل الانبعاثات الحرارية . مكسيم وجد الحل ، سنين من البحث و الدراسة و التجربة و الاستقراء و السفر ، تعرّض فيها للكثير من المخاطر ، وها هي النتيجة بين يديه ، ولم يبق سوى الإعلان عنها عند مناقشة الرسالة التي حدد موعدها وبدأت الاستعدادات اللازمة بشأنها . لقد حدد المكان على مدرج كليّة العلوم البيئية ، وحدد الزمن وذلك في الساعة العاشرة من يوم الاثنين من الجمعة الأخيرة من شهر نيسان . وجهت الدعوات للذين سيحضرون من الأهل وعلى رأسهم والدته وخاله غاندي ، والأصدقاء وعلى رأسهم بريانكا وزوجها وصديقه آدم ، وأساتذته وعلى رأسهم البروفيسور فكتور . كان شعوره لا يوصف وهو يتلقى التهنئة في أثناء توزيعه للدعوات لأجل الحضور ، فكان يردد عبارة في نفسه : ما أجمل طعم التفوق و خاصة إن كان في مجال العلم وفي سبيل خدمة البشريّة .
في الليلة الأخيرة لصباح اليوم المنتظر كان له جولة في المدينة بواسطة عربته الجديدة الفارهة ، فمرّ في معظم شوارعها ومر بجانب الجامعة والمدرج الذي سيناقش فيه الرسالة ، ومن ثم عاد إلى شقته حيث كانت والدته نائمة . قام بإجراء بروفا لطريقة العرض على جهاز الإسقاط الموصول على اليوتيوب ، واطمأن بأن كل شيء على ما يرام ، فوضّب محفظته ، و وضع فيها كل ما سيحمله ويلزمه لعرض بحثه . كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشر ليلاً بتوقيت المدينة ، كان الهدوء والسكون مميّزان لدرجة أنه لم يألفهما في مثل هذا الوقت طيلة إقامته فيها . تمدد على السرير وتدثر بالغطاء ، رقد وهو يحلم بيوم الغد الذي لم تعد تفصله عنه سوى سويعات قليلة بعد أن انقضت السنين والأيام ولم يبق سوى سويعات ويتحقق الحلم . لقد تذكر ابراهام ، رجل الدين الذي فسّر رؤية والدته عندما قال لها أنه سيصبح مشهوراً ومتميّزاً ، فترحّم عليه وهو يرى نفسه الدكتور مكسيم . على أثر الجهد الذي بذله طوال يومه ، غطّ في نوم عميق ولم يستفقْ إلا في مشفى ميداني تجرى له الإسعافات الأوليّة ، ومن حوله أيضاً الكثير من المصابين ، حيث ضرب المدينة زلزال قوي أصابها بأضرار بالغة وخاصة الأبنية ، ومن جملتها البناية التي يقيم فيها . كانت والدته تبحث عنه لقد نجت بأعجوبة ولم تصب بأي أذى لكنها فقدت مكسيم ، علمت أن سيارة إسعاف نقلته لكن لا تعلم إلى أين ، فأخذت تبحث عنه في أماكن الإسعاف ، فلم تكن تسمع سوى أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء وصفارات الإنذار ، حتى وجدته ، وعندما لحظته صاحت بأعلى صوتها : مكسيم ، مكسيم ولدي ، ثم اتجهت صوبه و ارتمت فوقه في السرير ، احتضنته وراحت تقبّله . لقد كانت إصابته بسيطة ،
حيث أجريت له الإسعافات الأوليّة ومن ثم غادرا المشفى ، وعادا ليتفقدا المنزل الذي كانا يقيمان فيه ، يريدان تفقد ما جرى له ومن ضمن ذلك بحثه ، وهناك كانت آلات الأشغال تنقل أكوام بقايا البيوت المهدّمة ومنها منزلهما ، كان مكسيم ينظر إلى تلك الآلات والخشية تملأ قلبه على بحثه ، ويتساءل : أيكون قد رحل مع تلك الأنقاض؟؟. نسي آلامه ، وأخذ يبحث عنه تساعده والدته ، كانا يخاطران كثيراً في الولوج بين الآلات والأنقاض ، لكنهما لم يجدا شيئاً ، حزنت والدته وهي ترى ذلك الحزن في عينيّ مكسيم ، وتساءلت ماذا عليها أن تفعل؟؟! . أخذت تحدثه للتخفيف من حزنه بعدما اعتلاهما اليأس ، فقد كانت نظرات مكسيم تعبّر عمّا في قلبه ، كأن لسان حاله يقول : ضاع كل شيء . عادا إلى القرية ، وسكن مكسيم في بيته يعيد ذكرياته ويتابع شؤونه، أحواله تغيّرت وتبدلت فلم يعد كما كان . لاحظت والدته تغيّر أحواله وكذلك خاله غاندي ، فكانا رفيقيه الدائمين يواسيانه ويساعدانه إلى أن تعافى من جراحه ، وعاود نشاطه . في مكان إلقاء الأنقاض ، أحد العمال لاحظ وجود حقيبة شكلها مميز وهي بحالة سليمة ، انتشلها وسلّمها إلى مكتب الشرطة ، حيث تمّ التعرّف على محتوياتها ، وتبيّن لهم اسم الجامعة التي تخرج منها صاحب الحقيبة مكسيم ديمرجيان ، ولم يكن عنوانه موجود ، وبعدما تأكد لهم أن ملكيّة الحقيبة تعود له ، أرسلت الحقيبة إلى الجامعة ، وهناك في الجامعة تم البحث وجمع المعلومات عن الطالب مكسيم ، فتمّ الحصول على العنوان وأرقام الهواتف ، ومنها الجوال . ذهب في زيارة لخاله
غاندي ، ونسي جواله في المنزل ، تعالت نغمة جواله المميزة فسمعتها والدته ، نادت : مكسيم مكسيم فلم يكن في المنزل ، اتجهت صوب الجوّال لترد فكان قد صمت و انقطع الاتصال ، قلقت من ذلك وتمنت لو أنها استطاعت الرد . عندما عاد من زيارته أخبرته بما جرى ، فتفحص جواله لمعرفة المتصل ، فتبيّن له أن الرقم عائد للجامعة ، نظر إلى الساعة فوجد أن الوقت أصبح متأخراً ، فقال في نفسه : أتصل غداً ، وعاد يتحدث مع والدته التي أخذت تندب حظّها لعدم تمكنها من الرد . في الصباح ، وعندما كان جالساً يتناول فنجاناً من القهوة ، حضرت والدته لتخبره عن الرؤية التي شاهدتها ، فقال لها : لقد مات ابراهام ، ثم ضحكا وتابعت تقول : إنها رؤية جميلة تحمل بشائر خير ، فرد عليها : إن شاء الله . وضع فنجان القهوة وحمل جواله ، وغادر المنزل قاصداً زيارة أحد زملائه ، بعدما سمع من والدته الرؤية ، لم يستطع الاتصال بالجامعة بسبب حذف الرقم من الجوال نتيجة الخطأ ، ولم يكن قد حفظه ولا يتذكر منه سوى بعض الأرقام . كانت الساعة تجاوزت الحادية عشر قبل الظهر وهو يقود سيارته قاصداً منزل زميله ، رن جواله وظهر له الرقم ، إنه عائد للجامعة ، تذكّر أنه نفس رقم المتصل أثناء غيابه ، فأوقف السيارة بجانب الطريق وقام بالرد . ألو : السيّد مكسيم؟ نعم من فضلك نحن قسم المحفوظات في الجامعة و نرجو حضوركم لدينا .
من فضلك ممكن أعرف السبب بكل تأكيد ، توجد حقيبة سلمت إلينا من قبل قسم البوليس ، تبيّن أنها عائدة لكم ، حاضر ، متى ذلك؟ يمكنكم غداً الساعة العاشرة صباحاً، نعم نعم . أقفل الخط ، وبدأ يفكر ، أتكون حقيبة البحث ؟، و ترجّى الله أن تكون حقيبة البحث ، حيث تذكّر حديث والدته و الرؤية التي حدثته عنها ، فقال : سبحان الله ، كيف يحصل ذلك؟!! . بعد أن انتهى من زيارته عاد مساء إلى بيته ، وأخبر والدته بما جرى معه فأيقنت أَنها حقيبة المشروع ، وقالت له : ستتحقق الرؤية ، سيتحقق الحلم ولن تضيع جهودك فأنا متأكدة أَنها الحقيبة نفسها ، غداً سأكون برفقتك إلى الجامعة ، فقال لها : سأكون سعيداً بصحبتك . كان الليل طويلاً بساعاته ، ومع إطلالة الفجر بدأت استعداداتهما للذهاب إلى الجامعة ، وعندما ركبا السيارة كانا يتمنيانها أن تكون أسرع من الطائرة ، ومع الوصول إلى أخر المسافة كانت عقارب الساعة تشير إلى اقتراب الموعد ، قلق مع انتظار المفاجأة ، هل هي الحقيبة نفسها ؟؟ ركن السيارة في الموقف المخصص ،
من فضلك ممكن أعرف السبب بكل تأكيد ، توجد حقيبة سلمت إلينا من قبل قسم البوليس ، تبيّن أنها عائدة لكم ، حاضر ، متى ذلك؟ يمكنكم غداً الساعة العاشرة صباحاً، نعم نعم . أقفل الخط ، وبدأ يفكر ، أتكون حقيبة البحث ؟، و ترجّى الله أن تكون حقيبة البحث ، حيث تذكّر حديث والدته و الرؤية التي حدثته عنها ، فقال : سبحان الله ، كيف يحصل ذلك؟!! . بعد أن انتهى من زيارته عاد مساء إلى بيته ، وأخبر والدته بما جرى معه فأيقنت أَنها حقيبة المشروع ، وقالت له : ستتحقق الرؤية ، سيتحقق الحلم ولن تضيع جهودك فأنا متأكدة أَنها الحقيبة نفسها ، غداً سأكون برفقتك إلى الجامعة ، فقال لها : سأكون سعيداً بصحبتك . كان الليل طويلاً بساعاته ، ومع إطلالة الفجر بدأت استعداداتهما للذهاب إلى الجامعة ، وعندما ركبا السيارة كانا يتمنيانها أن تكون أسرع من الطائرة ، ومع الوصول إلى أخر المسافة كانت عقارب الساعة تشير إلى اقتراب الموعد ، قلق مع انتظار المفاجأة ، هل هي الحقيبة نفسها ؟؟ ركن السيارة في الموقف المخصص ،
وبعد أن ترجلا منها ، كانا يسيران على مهل ، رويداً رويداً إلى أن وصلا المكان المقصود ، إنه قسم المحفوظات ، مكسيم يسأل الموظف : من فضلك لقد اتصلتم بي ، أنا مكسيم . نعم نعم ، أهلاً وسهلاً الموظف يرد : توجد حقيبة وصلتنا من قسم الشرطة تبيّن أنها عائدة لكم ، ثم ذهب ليحضرها ، تساءل مكسيم : قسم الشرطة ، أيكون في الأمر غلط ما؟! ، وبعد أن غاب عنه وهو يدخل أحد المكاتب ، حضر الموظف والحقيبة معه ، فما كان من أم مكسيم إلا أن زغردت ، إنها الحقيبة عندما شاهدتها ، نفسها حقيبة مكسيم ، حقيبة البحث . استلمها وقبّلها ثم جلس برفقة والدته على المقعد المخصص للزائرين يتفقد موجوداتها ، فكانت كلها سليمة وكاملة ، السعادة تغمرهما والفرح والسرور . استغرب الموظف منهما تلك الحركات ، وتساءل عن سرّ تلك الحقيبة ، فلعلمه لم يكن فيها ما يستدعي ذلك ، وكل ما تحويه مجموعة أوراق وأقراص تسجيل وبعض الصور . غادرا الجامعة عائدين إلى القرية ، وعندما علم خاله غاندي ، أقام احتفالاً يتناسب مع الحدث ، فكانت أطباق الحلوى المختلفة تملأ المكان مع المهنئين بعدما علموا بالقصّة . أمضى مكسيم بضعة أيام وهو يعيد البحث ويراجعه ، كل شيء سليم و كامل الملف والتجهيزات ، حمد الله وشكره ، ثم أخذ يعد العدّة للعرض و الحصول على النتيجة ، فأعاد اتصالاته وتواصل مع البروفيسور المشرف و الذي فرح له فرحاً شديداً ، ومن ثم إدارة الجامعة ، ثم مع من لهم علاقة بهذا الشأن . حدد موعداً آخراً لتقديم البحث
و مناقشته ، وتمت التحضيرات المطلوبة على أكمل وجه ، المكان ، الزمان ، المدعوون . وأخيراً مكسيم في القاعة أمام الحضور ، وبدأ الشرح ، نعم إنه شيء جديد في علم البيئة ، حيث أذهل الحضور وخاصة أهل الاختصاص والأساتذة منهم ، فسمع التصفيق مرات عديدة تعبيراً عن الرضا و التمايز . أخيراً أصبح مكسيم دكتوراً ، واختراعه جديد تنتظره البشرية جمعاء ، يضمن بيئة سليمة من الغازات الضارة ، وأوزوناً سليماً . وقف يتقبّل التهاني ، الأهل والدته وخاله غاندي ، الأصدقاء وفي مقدمتهم بريانكا وآدم ، أساتذته وفي مقدمتهم البروفيسور فكتور ، جمع غفير من الحضور ، يالها من لحظات مؤثرة . حمل مكسيم شهادته واحتضن والدته ، يرافقهما خاله غاندي ، ويحيط بهما المدعوون إنها لحظات النجاح .
________تمت_________ علي محفوض 2018/7/13
d.damdom22@gmail.com
remonsoleman2@gmail.com